إبراهيم الأمين – الأخبار اللبنانية
لم يكذب عبد الحليم خدام عندما قال إن رفيق الحريري أكد له أن سمير جعجع سيكون مع اتفاق الطائف. لكن غازي كنعان، الذي زار جعجع لإقناعه بالدخول في منظومة الحكم بعد نفي ميشال عون، عاد وفي اعتقاده أن جعجع يريد أن يكون الرأس الاول للقوة المسيحية في لبنان. وهذا ما يناقض فكرة سوريا والسعودية عن اتفاق الطائف، وعن دور الأطراف اللبنانيين. بين الثلاثة، يوجد رجل حي، هو سمير جعجع. وإلى جانبه رجل آخر على قيد الحياة، اسمه محسن دلول، ويعرف تفاصيل تلك المرحلة.
سيكون من الضروري أن يخرج من تركيبة التسوية السورية – السعودية مَن يقدم رواية سمير جعجع منذ اتفاق التعاون معه على إطاحة عون عسكرياً حتى تاريخ دخوله السجن. لكن ومع حصول كل ما حصل، لم يكن جعجع خصماً بالمعنى الذي ينظر إليه حلف الطائف صوب ميشال عون. شكّل الأخير على الدوام مشكلة، سيكون من الضروري أيضاً مراجعة كل تفاصيلها يوماً ما. وما من مشترك بين تجربتي عون وجعجع سوى نظرة حلف الطائف الى كل منهما. واحد يرونه خارج النص ويمنع عليه الوجود داخله مهما حصل، وآخر، مغضوب عليه لكن مكانه محجوز على الطاولة متى قرر العودة… وهم لا يزالون في الانتظار!
القصد من مراجعة هذا التاريخ، هو الإشارة الى أن سمير جعجع عندما انضم الى فريق حماية اتفاق الطائف، كان واحداً من مجموعة ضمّت الآخرين من الذين انتظموا في مؤسسات الدولة برعاية سوريا والسعودية. كان الأكثر تجذراً على مستوى التمثيل وليد جنبلاط، وأكثر دهاءً وحيوية نبيه بري، وأكثر حركة وقدرة رفيق الحريري. وكان الثلاثة يكرهون أمين الجميل وكل قيادات الجبهة اللبنانية. حتى عندما دعموا التركيبات القيادية في حزب الكتائب، كانوا يفعلون ذلك للتخلص من إرث آل الجميل، وهو هدف لم يكن بعيداً عن عقل سمير جعجع وهواه. لكن المعادلة كانت تحتمل في ذلك الحين تعديلات جوهرية، أساسها أن النظرية السورية – السعودية لتطبيق اتفاق الطائف في حينه، فرضت التخلص من ميشال عون، وربما لأسباب لا تتعلق بواقعنا اليوم. لكن جعجع لم يكن يوماً هدفاً لهذه المجموعة، لا في لبنان وفي دمشق، وأكيداً ليس في الرياض!
اليوم، يقترب لبنان من لحظة مواجهة قاسية. ليس بسبب الانهيار التام لتجربة الطائف، بل أيضاً لأن ما يجري حولنا يستوجب تعديلات كبيرة على إدارة بلد لم يكن حراً يوماً، إلا في أغنيات الرحابنة وخطب القادة المزيفين، ولم يكن حراً أو واعداً إلا في خطب وعظات النفاق التي يتولاه شيوخ البلاط ورهبانه، وهم أسوأ من عليها منذ وُلدت مرجعياتهم ولا يزالون.. اليوم، يقف الناس أمام تحديات أساسها القدرة على العيش بهدوء. لا العيش الرغيد ولا الازدهار والنمو الاستثنائي، بل العيش الآمن بهدوء. وهو أمر لن يكون متوافراً، لا الآن ولا في السنوات المقبلة. ومن الضروري مصارحة الناس بأنه في حال حصل شيء إيجابي، فذلك يكون من صنف المعجزات!
ما نشهده اليوم ليس معركة بين فريقين يريد أحدهما نسف النظام برمته. نحن أمام تنازع حاد بين قوى لها جذورها العميقة في هذا النظام، ولها أسسها التي قامت على التمثيل الطائفي والمذهبي ومراكمة المصالح والامتيازات من الدولة وإلى جانبها. والكل ينطلق في معركته من اعتباره ممثلاً لجماعة يقاتل لأجل تحصيل وتحصين حقوقها. وليس منتظراً أن تحصل تحولات داخلية تقود الى فكرة مختلفة. بل على العكس، فإن الظواهر اليمينية ذات الجذر العنصري تطل برأسها من جديد، مثل أولئك الذين ينظّرون للتقسيم باسم الفدرالية. وهم في حقيقة الأمر يريدون قطعة أرض من لبنان، يعتقدون أن بمقدورهم توفير عناصر الحياة فيها، ولا بأس بالنسبة اليهم في خضوعها لوصاية الغرب إذا كان في ذلك ما يوفر لها الحماية. وفي المقابل، ليس كل من يرفض هذا الطرح يريد بديلاً مدنياً شاملاً، بل غالبية أركان النظام يريدون تعديلات تبقي على جوهر النظام الطائفي، ولو بآليات عمل وأدوات مختلفة.
في هذه اللحظة، كما حصل قبل أربعين سنة، وكما حصل منتصف ستينيات القرن الماضي، وكما حصل في العام 1943… نحن أمام لحظة صدام كبيرة بين القوى المشكّلة لهذا النظام. وهذه المرة، نحن أمام مواجهة قاسية، يمثّل الطرف الاقوى فيها الحلف الذي قام مع اتفاق سوريا والسعودية وأميركا على طريقة تنفيذ اتفاق الطائف. ويمثّل الطرف الأقل قوة فيها، التيار الذي تصرف معه الفريق الآخر على أنه مهزوم في الحرب الأهلية، لكن ظروف البلاد ومحيطها أعادته الى الساحة. والى جانب هذين الفريقين، تقف كتل سياسية واجتماعية، بينها من لديه تصوره للبلاد ضمن سياق إقليمي واسع، مثل حزب الله، أو مجموعات مبعثرة تطلق على نفسها التيارات المدنية، وهي ليست سوى مجموعات ضاقت ذرعاً بالنظام القائم، وتظهر يأساً من إمكان إصلاحه، فتراها تنشد أسلوب حياة منعزل عمّا يجري من حولها، أو تسعى لاقتناص لحظة داخلية وإقليمية ودولية تتيح لها تسلم مقاليد الحكم.