نارام سرجون: السلام السوري الاسرائيلي قافلة لن تصل.. إعادة تنقيط القرآن بعد تنفيطه

كيف تأمن الروح للكلمة بعد رحلة الرعب والخيبة التي عشناها في الربيع العربي؟.. حيث قتل العرب بعضهم في حفل قتل جماعي.. وكان الربيع أكبر مهرجان انتحار لم يحدث في التاريخ. 

منذ أن طعنتني الكلمات في روحي وغرزت رماحها الطويلة في قلبي صرت أكره الكلام.. وأشك به.. وتحولت إلى ديكتاتور أحب السجون التي أزج الكلمات فيها وأشك بكل كلمة.. وصرت مثل شرطي أو محقق في مدينة تغص بالعصابات ورجال المافيا.. فأنا أعتبر أن أي كلمة أسمعها أو أقرأها هذه الأيام متهمة حتى يثبت العكس.. آذاني وعيوني صارت غرف تحقيق.. غرف التحقيق عندي ممتلئة بالكلام الشارد الضال.. والكلام الذي تلطخت يداه بالدم، وتبللت حروفه بالدم، وعلقت بأسنان السين وأسنان الشين أشلاء البشر.. وباعت الكلمات نقاطها للملوك، والمماليك والصعاليك من الكتاب.. الذين ينزعون ويقلعون النقاط أو يضعون النقاط فوق حروف لاتستحقها.. كي تموت الحروف وتصبح الكلمات خرساء.. فماذا يبقى من شرف الحرف إن باع نقاطه وحركاته وسكناته للقوادين والمومسات؟ 

منذ وعد بلفور والحرب العالمية الأولى والكلام يكذب على الكلام.. فلسطين في كلام بلفور أرض بلا شعب وهي ملك يمين صاحب الجلالة.. و استمرت حفلة الكذب دون توقف سبعين سنة.. ورأينا الكلام الملون والملوث نفسه يكذب في الربيع العربي.. ففيه صار برنارهنري ليفي بمثابة جمال الدين الأفغاني.. وصارت تركيا الأطلسية هي الكعبة واستانبول هي نفسها مدينة يثرب..

الكلام اليوم يتابع رحلة التضليل ليقول لنا إن السلام السوري الإسرائيلي قادم و إن التطبيع قادم.. وأنا اليوم ألقيت القبض على مجموعة من الكلمات التي تتصرف مثل عصابات الكلام المارق.. إحدى العصابات تقول (السلام السوري الإسرائيلي قادم).. ولكن هذه الكلمات متنافرة ولاتلتقي.. وهو كلام يريد أن يهوّن من التطبيع العربي وأن يستعمل اسم سورية ونقاءها وسمعتها وشرفها لتنظيف سمعة التطبيع والمطبعين.. كما فعل الجاسوس عزمي بشارة قبل أن يبدأ رحلته التجسسية التخريبية.. فقد بدأ بتبييض سمعته ونيل الثقة وشرف النضال بأن يحط في سورية ويتبارك باسمها وأن يلتقي بقيادة حزب الله.. وبعدها طار الى قطر محملاً بالأوسمة وصكوك الغفران وهناك بدأ في صناعة السموم والسهام.

وهذا الكلام عن السلام السوري الإسرائيلي لايختلف عن الشائعات التي بثها الإعلام العربي قبيل اوسلو من أن الفلسطينيين قد تُركوا وحيدين لأن السوريين قد أنجزوا اتفاقاً مع الإسرائيليين وأن كلينتون شخصياً قد أشرف عليه.. ولم يبق إلاَّ إعلانه والمصافحات الحارة ورفع الأعلام الإسرائيلية في دمشق.. ولذلك هرول أبو عمار أو لنقل أن الجانب “المعتدل” أو المندس في منظمة التحرير الفلسطينية زيّن لـ ياسرعرفات فكرة (دعنا نسبق السوريين إلى الحفلة) وأخذوه إلى الحفلة في اوسلو.. وهناك كان يتم اعتقاله كما اعتقل الأتراك والإسرائيليون عبدالله اوجلان في حفلة كينيا.. وتعرض أبو عمار للخديعة الكبرى التي دفع حياته ثمناً لها.. وخسر استقلال ثورته.. وشقت الشعب الفلسطيني إلى شظايا.. واستولت إسرائيل على قرار فلسطين المستقل والباقي وزعته هبات على تركيا وقطر.

لذلك فإن أي كلام عن سلام سوري اسرائيلي هو خرافة.. ولا أساس له من الصحة.. ولا طعم.. ونحن لم ندفع هذا الثمن الباهظ كي نكافئ إسرائيل والعرب الخلايجة على مافعلوه بنا.. لأن الموافقة تعني ببساطة هي أن أي قرار مستقل لنا في المستقبل ستحله إسرائيل بالطريقة نفسها وهي تسليط الزعران والفوضى.. وأن السلام قبل الربيع العربي كان من الممكن أن يكون خياراً.. ولكن اسرائيل في لعبة الربيع العربي كشفت أنها لاتقدر على أن تطمئن إلّا بموتنا شعوباً وجماعات ودولاً.

السلام السوري الاسرائيلي ليس مستحيلاً فقط، بل أنه لايمكن أن يوجد لسبب بسيط وهو أن على اسرائيل أن تغير علمها وشعارها من الفرات الى النيل.. فكيف نسالم من لايزال مقتنعاً أن وطنه يبدأ من الفرات.. ودمشق وحلب جزء منه؟

من يظن أن العقبة هي أيضاً في قلقنا ومبالغتنا في الحذر، و أن اسرائيل ستعيد الجولان على الطريقة المصرية فإنه مخطئ لأن الرئيس الراحل حافظ الأسد كان يدرك خداعهم.. وأظهر بالمفاوضات أنهم كذابون ومشى معهم إلى أخر الطريق على رأي المثل العربي (الحق الكذاب حتى الباب).. وكان يدرك أنهم لايريدون السلام ولا إعادة الأرض.. لأن الجولان خزّان الماء الرئيسي لفلسطين ولأن سورية هي قلب إسرائيل المتخيلة من الفرات الى النيل.. ولن يتخلى عنه الاسرائيليون.

كانت سياسة الأسد تقول لـ بيل كلينتون الذي كان يتوسل إليه أن يعطيه فرصة الحصول على جائزة السلام السوري الإسرائيلي.. وقال لـ كلينتون: “إذا عاد الإسرائيليون إلى خطوط الرابع من حزيران فسأبحث اقتراحك للسلام”.. وفي كل مرة يحاول كلينتون استعادة الجولان مقابل السلام يتهرب الاسرائيليون ويتصلبون.. ويقفون في أخر متر.. وعندما وضعت وديعة رابين كتعهد لكلينتون قامت المخابرات الاسرائيلية بتصفية رابين (يهودي قتل يهوديا).. على الطريقة نفسها تصفية كينيدي في اميريكا (أميريكي قتل اميريكياً).. حيث الدولة العميقة الصهيونية هي التي تقرر القرارات الكبرى في اسرائيل..  وهم مجموعة صهيونية متشددة، ورأت أن رابين يخاطر بإسرائيل ومشروعها.. فالأسد ليس السادات لأن الأسد سيأخذ ولن يعطي اسرائيل لا سفارةً ولا علماً ولا تطبيعاً، ولن يغيّر المناهج الدراسية السورية التي تقول أن فلسطين عربية.. كما فعل السادات الذي غيّر كل شيء.. الأسد قال كلاماً خطيراً لـ كلينتون الذي اقتنع به وهو “أن الحرب على الجبهة ستنتهي إذا حل الإتفاق السوري الإسرائيلي.. ولكن السلام لايعني دوماً سفارات وأعلاماً وتغييراً في المناهج المدرسية وسياحاً اسرائيليين في دمشق.. وهناك دول ليس بينها سفارات، ولكنها تعيش مع بعضها بوئام وسلام..  وإذا نجح الاسرائيليون في اثبات أنهم أهل للسلام فإن الشعوب العربية هي التي ستبادر لاعطاء أجواء السلام معنى حقيقياً بعيداً عن البروتوكولات والسفارات.. أما أنا.. فلا.. لن أصافح”. 

الإسرائيليون المتشددون يريدون معاهدة سلام محبوكة تضمن أمنهم لـ 125 سنة متواصلة تقوم على مبدأ أن تدخل اسرائيل في نسيج المجتمع المدني والإقصادي والتجاري السوري.. كما فعلت في مصر والأردن.. حيث أن الشركات والمشاريع المشتركة ورجال الأعمال فيها هم الأحرص على اتفاقات السلام.. ويصبح أمن اسرائيل مهماً لرجال الأعمال والتجار والقطاعات المدنية أكثر من اهتمام الاسرائيليين بها.. وظل الاسرائيليون يبعثون للسوريين بإشارات ايجابية كاذبة، ولكنهم كانوا ينتظرون موت الأسد كي يتعطل مشروع السلام ويموت.. ويترقبون وصول الفوضى إلى سورية بموت الأسد الأب، كما كان الاسرائيليون يتوقعون ويأملون.. ولكن عندما لم تحدث الفوضى ونجح الأسد الابن في حفظ التوازن الدقيق للقوى السياسية والعسكرية والمدنية بعد الأسد الأب.. عاد الاسرائيليون الى مناورات المفاوضات عبر تركيا.. فيما كانت المخابرات الاسرائيلية تحضّر الربيع العربي لتدمير كل سورية وتفكيكها.. وهو ما توقعته إذا ماتوفي الأسد الأب.. أي أن تفكيك سورية وتحطيمها كان حلماً اسرائيلياً سواء حدث السلام أم لم يحدث.. ولكن نجحت في الوصول الى تلك اللحظة عبر تركيا والعرب الخلايجة والاخوان المسلمين الذين تبيّن أنهم كانوا يجرون اتصالات ومفاوضات مع الاسرائيليين والأمريكيين قبل الربيع العربي بكثير لاتمام صفقة الاستلام والتسليم.. تسليم سورية والشرق للاخوان مقابل تسليم فلسطين والقدس للاسرائيليين.. فعن أي سلام تتحدثون؟ ومع من؟ مع عقل صهيوني استعلائي يظن أن الله موظف عنده؟

الغريب أن البعض يستسيغ التفكير بأن الروس هم من ينجز هذا السلام.. وأن السعودية تقترب من سورية لأن سورية تقترب من اتفاق السلام.. ولكن كل هذا الكلام عن مرحلة مقبلة من السلام سببه ضعف اسرائيل التي تلوح بالسلام عندما تواجه قلقاً وجودياً.. وتستغل حاجة الشعوب للأحلام.  

السعودية لا تملك من أمرها أي شيء لتقرر متى تقترب من سورية.. والسياسة في السعودية شرحها لنا ترامب.. ترامب قال أنه ينظر إلى السعودية على أنها بقرة حلوب ويجب أن تذبح.. وهذه ليست نظرته بل نظرة النخب الامريكية للعرب عموماً وللسعودية خصوصاً.. ورأينا كيف أنه استدعاهم إلى واشنطن وجردهم من أموالهم ووقعوا على بياض على التطبيع والتنازل عن الأموال.. وكانوا مثل جوقة استعراض لترامب. 

لذلك فإن معضلة السعودية في الاقتراب من سورية ليست معضلة الملك لأن القرار ليس في قصره وليس في رأسه.. بل في واشنطن.. وعندما تقرر واشنطن أن تركع السعودية على أعتاب دمشق وتقبل يديها وقدميها فستفعل السعودية صاغرة.. ولكن عندما تصدر أميريكا أمراً للسعودية والخليج بالتشدد في المواقف تجد العنتريات والقبضايات – الذين كانوا يوقعون على صكوك التنازل في واشنطن وهم صاغرين – تجدهم أعلى صوتا من اردوغان يوبخون.. ويتعنتون.. ويرفضون عودة سورية إلّا بعد اخراج إيران منها ورحيل الأسد.. ونسمع كلاماً مهترئاً لم يعد يسمعه أحد في العالم.. مثل الكلام التي نسمعه على مسجل صوتي من جيل الثلاثينات والأربعينات، أو مثل أفلام تشالي شابلن التي لايراها أحد الآن.

والسوريون يعرفون ذلك.. ولايعيرون هذا الكلام المهترئ شروى نقير.. فالمفاوضات مع الأمريكي في التنف والشرق والعراق وفي إدلب.. مفاوضات من نوع آخر.. مفاوضات كسر عظم.. لذلك لا سلام مقبل مع اسرائيل.. بل على العكس.. الأيام المقيبة لن تكون سهلة على اسرائيل.. وهذا سبب آخر يجعلنا أكثر تمسكاً بمشروع الرفض بل والرد على غدر هذا الكيان الاستعماري الموظف لصالح الغرب المسمى اسرائيل.. غدر لن يتوقف إلّا بتوقفها عن الوجود.

لذلك أرجو من معالي القراء الكرام أن يحولوا آذانهم وعيونهم الى غرف تحقيق للكلام المقروء والمسموع والمنقول والمفيّس (من فيسبوك) والمتوتر (من تويتر).. ولا تعبأوا بمن يتهمكم بالديكتاتورية.. فعندما يتحول الكلام إلى عصابات وتصبح للكلمات أسنان أو حوافر تجعلنا من ذوي الحوافر، فإننا يجب أن نكون قساة.. وأن نعيد تنقيط الحروف، وتنقيط القرآن.. بعد أن غيّر الإعلام تنقيط القرآن.. الى تنفيط القرآن.. وغيّر تنقيط الثورة والحرية.. فرمى النقاط على الحرية والثورة.. فسقطت فوق الحاء والراء فحصلنا على الخزي والعار والثورات الملونة والملوثة والكريهة.

صناع الكلام وكتابه اليوم يا سادة مثل الطهاة في برامج الطبخ.. يكثرون من البهارات، والتوابل، والأصباغ.. خلاطات بلا نهاية، ووصفات، وطعام لذيذ.. حيث يطحن الكلام وتعصر الكلمات وتصير شراباً ملوناً.. ولكنه طعام للتسلية وللفنادق والأبراج.. وهذا ليس طعامناً.. وليس طعام الفلاحين والعمال والجنود حيث التراب هو البهار والملح.. وماء الينابيع هو الصلصة والمرق.. وما قلته في هذا المقال.. مليء بتراب الأرض وملح الأرض الطاهرة، وماء الينابيع الصافي، ومائدتنا على قارعة الطريق وتحت الأشجار وفي بيوت الفقراء.. وليس فيها أي خلطة من خلطات الفنادق والأبراج العاجية وحفلات السفارات والمهرجانات.

المصدر: نارام سرجون

Exit mobile version