حنا صالح – الشرق الأوسط
تلاحقت في الآونة الأخيرة، المواقف والمعطيات عن استعدادات دولية، لتأمين دعم يساعد في مخطط انتشال لبنان من القعر الذي دفع إليه، لو برز لدى الطبقة السياسية أي منحى يشي بتحمل مسؤولية اتخاذ بعض القرارات الجدية… التجاهل الكامل كان حصيلة كل المبادرات، مع إصرار غير مسبوق على إدارة الظهر لها، واستنكاف عن التعهد بأي خطوات إصلاحية، حتى تلك التي تعهدت بها الحكومات اللبنانية المتعاقبة. هذا الوضع يفسر قول البنك الدولي في آخر تقاريره عن لبنان إن هناك «توافقاً سياسياً حول حماية نظام اقتصادي مفلس أفاد أعداداً قليلة لفترة طويلة»، يقابله «غياب كل توافق سياسي بشأن المبادرات الفعالة في مجال السياسات الإنقاذية»!
موفد الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي زار بيروت مؤخراً، ملوحاً بجزرة المساعدات أو عصا العقوبات على المعرقلين الفاسدين، صدمته المواقف و«الاهتمامات» التي تتجاهل المسؤولية عن ضرورة المباشرة في إطفاء النار، وهو رفض من منبر القصر الجمهوري كل التبريرات عن التدهور المريع، مؤكداً الأسباب الداخلية للانهيارات، ودحض مزاعم تحميل اللاجئين السوريين المسؤولية عن أزمات لبنان.
كذلك، فإن تخوف «الديلي التليغراف» البريطانية لم يلقَ أي صدى، رغم إبرازها خطر «الانهيار المدمر» الذي قد يصيب «كل مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، العمود الفقري للبلاد». فتحت أنظار الجميع ترك الجيش «يكافح من أجل الاستمرار في إطعام جنوده، كي يكون بإمكانه العمل لمنع الانهيار الكامل للبلاد»! في حين أدى إلى التوجس والقلق ما كشفته «لو بوان» الفرنسية عن التحقيقات في ثروة رياض سلامة ومصادرها، والتي قد تؤدي إلى الوصول إلى ثروات كثير من الساسة اللبنانيين، لكنها لم تحدث بعد الهلع الذي كان متوقعاً، وكأن كل من تحوم حولهم تهمة الارتكابات مطمئنون إلى نتائج عمليات تبييض الأموال المتهمين بها!
الأكيد أن كل الذين تعاقبوا على المسؤولية منذ 3 عقود، وبمعزل عن أن شراكة بعضهم تعود إلى آخر 16 سنة فقط، وهذه فترة غير قصيرة، هم شركاء في مآسٍ طالت كل شيء في لبنان. وجميعهم شركاء في تغطية نهجٍ إجرامي، من نتائجه ما يلمسه المواطن، وكذلك الزائر، من تفكك أصاب السلطة، وتلاشٍ في دور المؤسسات، التي تراجعت فاعليتها إلى ما دون الحد الأدنى. هذه الشراكة بين الـ7 الكبار، وأولهم «حزب الله» رعى قيامها مطلع تسعينات القرن الماضي النظام السوري المحتل، قبل أن تؤول إلى الحزب بعد العام 2005. هي وسيلة مثلى لإحكام السيطرة الخارجية، ولم تكن يوماً وسيلة للبناء والارتقاء بالبلد إثر خروجه من حربٍ أهلية مدمرة. بل هي شراكة مبرمجة مدروسة مشغولة بدقة هدفت إلى الاستيلاء على المال العام والخاص، وبالتالي، كل أطراف هذه الشراكة يتحملون مسؤولية ما رتبته هذه السياسة من تداعيات!
كلهم شركاء في حكومات «وحدة وطنية»، وضعت موازنات ملغومة بصم عليها البرلمان، ونال كل طرفٍ حصته، و«حبة مسك»، من نظام المحاصصة الطائفي الذي أقاموه. وفوق ذلك كلهم شركاء في أخطر قرار يمنع أي خطوة إصلاحية، ألا وهو قوننة التهريب الذي يستنزف المتبقي من الإمكانات، وهو قرار «جيو – استراتيجي» قضى بنقل الثروة من لبنان إلى النظام السوري وميليشياته، وبالطبع توفير التمويل الرئيسي للدويلة! وإلا كيف يمكن لقوافل تضم عشرات الصهاريج والشاحنات، أن تنتقل جهاراً نهاراً إلى خلف الحدود اللبنانية في تحدٍ لـ«قانون قيصر»، وما من جهة من المنظومة السياسية تحتج، فيما الناس «مشلوحة» في طوابير السيارات أمام محطات الوقود، وتُضرب الصيدليات بعد شح الدواء لديها، ووزارة الاقتصاد تعلن: «لا يمكننا بعد اليوم تحديد المستويات التي سيسجلها سعر الخبز في المستقبل»! وحتى يكون الأمر جلياً فمنذ «17 أكتوبر»، أي قبل نحوٍ من 18 شهراً بلغ حجم الإنفاق على السلع المدعومة من محروقات وطحين ودواء نحو 7.5 مليار دولار في السنة بإجمالٍ يصل إلى 8 مليارات دولار خلال هذه الفترة، طال «التهريب» المقونن ما نسبته 50 في المائة منها!
هذا المنحى الكارثي له أم وأب وأصول وفروع، ومن العبث أن يحاول الرئيس عون بعد مضي نحو 5 سنوات على وجوده في القصر التبرؤ من المسؤولية مما آل إليه الوضع النقدي والمالي والاقتصادي والاجتماعي. ومستحيل تغطية دور ومسؤولية رأس الحكم والفريق الباسيلي عن نهج الاستتباع المفروض لمحور الممانعة الذي غطى الارتكابات… إذ يكفي التوقف إزاء ما رتبته وزارة الطاقة من خسائر، التي حوّلوها في آخر 12 سنة إلى مزرعة خاصة، فأوصلوا البلد إلى العتمة الشاملة بعد التسبب في زيادة الديْن نحو 48 مليار دولار، ويكتفون بترداد معزوفة أنه كانت لهم خطط أخرى، لكن الآخرين «ما خلوهم يشتغلوا»!
كل زوار لبنان تيقنوا أن ما يجمع بين كل الأطراف هو التمسك بالمواقع في الحكم، والكل يسعى إلى زيادة حصته ودوره. وما تبيّنه الزوار هو أنه مقابل الغياب الكلي عن الاهتمام بما آل إليه وضع لبنان والأوضاع المعيشية الكارثية، فإن اللافت هو الصراع المفتوح على رئاسة الجمهورية، فيما «لبنان يغرق» كما عنون البنك الدولي تقريره لوصف حال التلاشي وخطر الاندثار المحيق بالبلد. طبعاً كل ذلك تحت الدفع المستمر لكي يتحول إلى واحدٍ من الأقاليم التي يريد نظام الملالي وضعه تحت هيمنة «إيران الكبرى»!
في هذا السياق، يمكن التوقف أمام الخطوة الخطيرة التي أقدم عليها جبران باسيل عندما قال إنه يريد الاستعانة بـ«صديق هو السيد حسن نصر الله»، مضيفاً: «أريده حكماً وأميناً على موضوع الحقوق»! أي حقوق المسيحيين التي يزعم باسيل ومن خلفه العهد أنهم المدافعون عنها، ليقول إنه يفوض نصر الله تحصيل هذه الحقوق! وبعبارة أخرى، يرفض الدستور الذي يرعى ويحمي حقوق كل اللبنانيين، ليعلن القبول بما يفتي به «حزب الله»! وبعبارة أخرى، قفز باسيل باسم فريقه ونيابة عن رئيس الجمهورية إلى لعبة تسليم الأوراق إلى نصر الله، في تكرار خطير لاتفاق «مار مخايل»؛ تغطية السلاح غير الشرعي والدويلة مقابل الرئاسة! أي تسليف «حزب الله» الذي يرتهن لبنان كمجرد ورقة في أجندة المفاوض الإيراني في فيينا، مقابل تزكيته اللاحقة لرئاسة الجمهورية، وقبل ذلك دعمه في الانتخابات النيابية، بعد تصدع «التيار الوطني» والتراجع الحاد في نسبة مؤيديه، وفق كل الإحصاءات ودراسات قياس مواقف الناخبين.
بالتأكيد تتشارك كل الطبقة السياسية اللبنانية في ارتكاب الجريمة المنظمة المستمرة، التي رمت إلى استتباع لبنان. لكن النقلة الأكثر خطورة راهناً، جاءت من جانب القصر «المؤتمن» على الدستور وفريقه، وليس صدفة أنها تزامنت مع وصول إبراهيم رئيسي أكثر المتشددين إلى الرئاسة في إيران، وهي خطوة سداها ولحمتها تأمين المستقبل السياسي لباسيل المعاقب دولياً وداخلياً، لكنه الجاهز دوماً لكل التنازلات والأثمان التي ستترتب على اللبنانيين مقابل كرسي الرئاسة!