إيلي عبدو
التفاوت الزمني للثأر في العراق، يجعل التخلص منه شديد الصعوبة، فما هو صراع بين السنة والشيعة يتداخل والانتقام من زمن صدام، والانتقام من مرحلة ما بعد “داعش“، وتصفية الحساب مع الذين أيدوا التنظيم ومنحوه حاضنة ودعماً.
تكشف أخبار الساعة الآتية من العراق عن تأصل الثأر، في دولة ما بعد 2003، إذ يختلط الثأر بما هو ديني وتاريخي وراهن، ويعمل بديناميات خارج السياسة، ويصبح آلية تنتج الخراب. فمن محاولات رفع صور الإمام علي الخامنئي في الأعظمية، قسراً، رغماً عن السكان، مروراً بدعوات هدم تمثال أبي جعفر المنصور، ومرقد أبي حنيفة النعمان، وصولاً إلى منع عائلات ضحايا مجزرة سبايكر، أهالي صلاح الدين من المرور في بغداد، وشتمهم وإهانتهم، يمكن تلمّس ذلك الخيط الذي يربط تداخل الثأر بأحوال العراق، ومركزيته في التحكم بالبلاد.
محاولة رفع صور رموز إيرانية، في حي سني عريق في بغداد، ترجمة لفائض القوة الذي بات يتمتع به “الشيعية السياسية”، والضعف التي اعترى سنّة العاصمة، واختلال التوازن لمصلحة طرف. هو انقلاب على زمن صدام، والثأر من ذلك الزمن. السنّة لم يكونوا خلال العهد البعثي خارج منظومة الاضطهاد، لكن في الوقت عينه، بقيت معاناتهم على مستوى منظومة القمع العامة، أي أنهم استهدفوا كأفراد، وليس كجماعة، عكس ما حصل مع الشيعة والأكراد، الذين استُهدفوا كأفراد وكجماعات، على ما تبين أحداث قمع “الانتفاضة الشعبانية” وعمليات الأنفال. وعليه، ثمة تماه ما، بين السنّة وصدام، في وعي الجماعات الأخرى، التي لم تجد السنّة يُضطهدون لأنهم سنّة، أي بسبب أحد عناصر انتمائهم. وصورة الخامنئي، ليست سوى ثأر من صورة صدام، وتكريسها كأمر واقع جديد، يدلل على موازين قوى جديد. صحيح أن الصور الإيرانية لم ترفع في الأعظمية، بعد اعتراض أهلي وتدخل حكومي، لكن، ما حدث، كشف عن تقليد متواصل في عراق ما بعد صدام، تمكن تسميته، ثأر الصور من بعضها، ضمن حرب رموز ينتصر فيها من يملك الغلبة.
ولعبة الثأر هذه، الحسابات فيها غير منضبطة، إذ، يتداخل الطائفي بالسياسي، والتاريخي بالراهن، فما يبدو قريباً يتعلق، بزمن صدام، ويمكن مده زمنياً، ليصل إلى عام 148، تاريخ وفاة الإمام السادس عند الشيعة جعفر الصادق، والمتهم بقتله- وفق إحدى الروايات الشيعية- باني بغداد أبو جعفر المنصور. كما يمكن أن يمتد إلى زمن أبي حنيفة النعمان، مؤسس المدرسة الحنفية، فتتصاعد الدعوات الشيعية لهدم تمثال الأول ومرقد الثاني. الثأر إذاً يتمدد تاريخياً ويعتاش على وقائع، غير مؤكدة تتعلق، بالصراع بين السنّة والشيعة، ويتغذى على وقائع ليس بعيدة، ترتبط بما يظنه الشيعة تأييداً سنياً لـ”داعش”، في صلاح الدين، ما دفع ضحايا أهالي مجزرة سبايكر التي نفذها التنظيم بجنود شيعة، يقطعون الطريق على سكان المحافظة ذات الغالبية السنية، ما أثار مخاوف من توتر طائفي، واستدعى بيانات إدانة ودعوات للحكومة بالتدخل.
والتفاوت الزمني للثأر في العراق، يجعل التخلص منه شديد الصعوبة، فما هو صراع بين السنة والشيعة يتداخل والانتقام من زمن صدام، والانتقام، من مرحلة ما بعد “داعش”، وتصفية الحساب مع الذين أيدوا التنظيم ومنحوه حاضنة ودعماً. بمعنى أن الثأر غير محدد، بفعل ينتهي بفعل مضاد، نحن حيال ثأر لا متناهٍ، أي، آلية متواصلة تنتج نفسها بنفسها، وتتغذى من التاريخ تارة، ومن الحاضر طوراً. فما يعتَبر شعوراً بالثأر من سني أيد صدام أو “داعش”، هو في العمق ثأر من سني ينتمي لأبي جعفر المنصور قاتل جعفر الصادق.
فتح الثأر عراقياً على كل الممكنات التي تغذيه وتجعله دائماً ومستمراً، يتعلق، بفشل، دولة ما بعد صدام، في نقل المفهوم من دلالته البدائية وحوامله التاريخية القريبة والبعيدة، إلى السياسة، حيث العدالة والمحاكمات، تفضي إلى سلام مجتمعي بدل أن تغذي نزعة الثأر كما حصل. يلاحظ الكاتب كنعان مكية في كتابه “في القسوة” (منشورات الجمل) أن محاكمة صدام، كرست فكرة أن السنّة يجلسون معه في قفص الاتهام، حيث تم التركيز على قضية الدجيل الشيعية والأنفال الكردية. وإن أردنا تطوير ملاحظة مكية، فخلال محاكمة صدام، كان من الأفضل، التركيز على منظومته القمعية التي ألحقت ضرراً بكل العراقيين، وفهم السياقات السياسية لقمعه الجماعات الأخرى، دون السنّة، انطلاقاً من تركيبة المجتمع، وفشل مشروع الدولة الوطنية ووقوع البلاد في فخ الانقلابات، وما تلا ذلك من تسلط للبعث واستخدامه العصبيات العائلية والمناطقية والطائفية، للتحكم والتغلب على أحوال العراق، أي جعل علاقة الاستبداد بالجماعات، مدخلاً لفهم درجة القمع الذي أصاب كل منها، لا طبيعة الجماعة وخياراتها التي كانت محكومة بشروط النظام الحاكم وتسلطه.
إخراج مفهوم الثأر من السياسة، تدرج في عراق ما بعد صدام، تبعاً لطبيعة القوى المتسلطة، إذ يمكن تفسير الوقائع الطائفية التي حصلت وستحصل، انطلاقاً من رغبة الأحزاب بحشد جماهيرها قبل الانتخابات، عبر افتعال حوادث من هذا النوع، وكذلك يمكن تفسيرها بخلق توتر طائفي وأمني، لزعزعة الاستقرار أكثر، والوصول إلى تأجيل للانتخابات، كما قال عدد من المحللين. ومع أن، هذه التحليلات، ليست بعيدة من الواقع، لكن الثأر في هذه الحالة، يتم تجييره ليصبح، جزءاً من لعبة المصالح، أي سيضاف بعد جديد إليه، يرتبط باستفادة القوى الحاكمة، حالياً، والتي تمكنها تصفية أي ناشط يعترض على فسادها بكل سهولة، انطلاقاً من الثأر أيضاً، الذي، للمفارقة، بات يستهدف الشيعة الأفراد.
الثأر إذاً بات آلية، تتغذى من التاريخ والراهن، وتستفيد منها الأحزاب، فما هو كلاسيكي في نظرتنا للثأر بوصفه، مؤسسة تحمي أعضاء العشيرة التي تحكم تركيبتها روابط الدم، تداخل مع الصراع السني- الشيعي، ومع الخراب التي أحدثه صدام، وفشل دولة ما بعد الديكتاتور، ومرحلة “داعش” وما تلاها من أحقاد، كل ذلك جعل العراقيين جزءاً من ماكينة الثأر وضحاياها أيضاً.