توفيق شومان
من غير المتوقع أن تشهد السياسة الخارجية الإيرانية تحولات أساسية في السنوات الأربع المقبلة من ولاية الرئيس “المحافظ“ إبراهيم رئيسي، بل إن الخطوط العريضة وما تحتها ومع كثير من التفاصيل، من المرجح لها ألا تفترق عن النهج الذي عرفته إيران طوال ثماني سنوات من رئاسة حسن روحاني. في حال الإبتعاد عن التصنيفات الملتبسة للتيارات السياسية الإيرانية، وخصوصا في فرعيها العريضين، الإصلاحي والأصولي، ليس من السهولة بمكان إدراج ابراهيم رئيسي في خانة الأصوليين المطلقة مع انه ـ حتماً ـ ليس من الإصلاحيين. إنه من “التيار الثالث” الذي يرث ايديولوجية التيار الأصولي التقليدي ويأخذ من خطاب وأدبيات التيار الإصلاحي، مما يجعله في منزلة بين منزلتي الإيديولوجيا والبراغماتية. والعودة إلى السيرة السياسية لإبراهيم رئيسي، وخصوصا إثر تقدمه إلى الصدارة السياسية منافساً “المعتدل“ حسن روحاني في الإنتخابات الرئاسية في عام 2017، تُفصح عن عدم اختلاف جلي بين الرجلين في مجال السياسة الخارجية لإيران، وبالتحديد تجاه إشكاليتين كبيرتين عرفتا انقساماً إيرانياً داخلياً، الأولى، مرتبطة بالمفاوضات النووية، إذ أن بعض الأطراف الأصولية كانت تعارض مبدأ المفاوضات وأساسها؛ والثانية، متعلقة بإحياء العلاقات مع دول الخليج العربية وعلى رأسها السعودية، فتلك الأطراف عينها، كانت تسلك في خطابها السياسي مسلك الشدة والحدة. وحيال هاتين الإشكاليتين، اعتمد رئيسي خطاباً واقعياً وبراغماتياً في حملتيه الإنتخابيتين عامي 2017 و2021، ويمكن تتبع هذا الخطاب على الوجه التالي: أولاً؛ في الإتفاق النووي: في حوار أجرته وكالة “يونيوز” ونشرته قناة “الكوثر“ الإيرانية الناطقة باللغة العربية في الحادي عشر من أيار/ مايو 2017، لم يُبد ابراهيم رئيسي معارضة للإتفاق النووي الموقع في آب/ أغسطس 2015، وإنما دعا إلى الإلتزام به، فـ“نحن اليوم لدينا اتفاق يجب على الجميع أن يكونوا أوفياء له، ويجب على الدول الغربية والولايات المتحدة الإلتزام بتعهداتها معنا، والإلتزام بالتعهدات هو لمصلحة الجميع”. وفي المناظرة الإنتخابية الثانية في السادس عشر من أيار/ مايو 2017، أكد رئيسي احترام الإتفاق النووي، واصفاً إياه بـ“الوثيقة الوطنية برغم كل الإشكاليات التي تعاني منها”، وهو امر يناقض، على سبيل المثال، موقف المرشح الرئاسي مصطفى ميرسليم، الذي قال إن الإتفاق يفرض قيوداً على العلوم النووية الإيرانية. تلك المواقف نفسها تقريباً، أوردتها قناة cnn الأميركية (14 ـ 5 ـ 2017) نقلاً عن وكالة “تسنيم“ الإيرانية، حيث قال رئيسي “إن إيران أثبتت حسن نيتها بالإلتزام الكامل بتعهداتها، وعلى الغرب أن يعلم أن الإتفاق النووي هو وثيقة دولية أقرت في المحافل الدولية، ويجب احترامه والإلتزام به”. الدفع بإتجاه تبني غالبية الأجنحة المحافظة لسياسة براغماتية تأخذ بالمصالح الوطنية العليا، مقابل خفض منسوب الإيديولوجيا في الخطاب السياسي، فضلاً عن الممارسة السياسية وكما سيلاحظ، أن مواقف ابراهيم رئيسي من الإتفاق النووي في عام 2021، ستشكل امتداداً لمواقفه في عام 2017، وحيال ذلك قال “ان الإتفاق النووي بحاجة الى حكومة مقتدرة لتطبيقه”، بحسب ما نقلت عنه وكالة “إرنا“ الرسمية (13ـ 6 ـ 2021)، فيما “محاور السياسة الخارجية لحكومة رئيسي المحتملة في حال فوزه بالإنتخابات، فهي رفع الحظر الجائر على البلاد من خلال الدبلوماسية“ وفقا لقناة “العالم“ في الرابع عشر من هذا الشهر، أي قبل أربعة أيام من الإنتخابات الرئاسية. وفي أول إطلالة صحافية له بعد فوزه في العملية الإنتخابية (21 ـ 6 ـ2021)، قال رئيسي “سندعم المفاوضات التي تضمن مصالحنا الوطنية، ولكن لن نسمح بأن تكون المفاوضات من اجل المفاوضات”. إن مجمل مواقف الرئيس الإيراني المنتخب من الإتفاق النووي، وعلى مدى أعوام أربعة، وبما فيها حملتاه الإنتخابيتان، تُظهر التزامه الكامل بالإتفاق المذكور وعلى قاعدة “الإلتزام مقابل الإلتزام”، وهي قاعدة، طالما تكرر حضورها في مواقف الرئيس روحاني وفريقه الحكومي، ومن ضمنهم على وجه الدقة: محمد جواد ظريف وسعيد خطيب زاده وعباس عراقجي وغيرهم. ثانياً؛ في العلاقة مع السعودية: منذ ترشحه للإنتخابات الرئاسية عام 2017، أطلق رئيسي سلسلة مواقف تقاربية مع السعودية، ففي الحوار الذي أجرته معه وكالة “يونيوز” المشار إليها سابقا، وفي سياق رده على معارضته او تأييده لإجراء حوار مع السعودية، قال رئيسي “نحن جاهزون لأي مفاوضات يمكن ان تحد من التوتر في المنطقة، وتوفر الإستقرار لشعوبها”، وهذا الموقف نفسه نقلته قناة “الميادين“ عن رئيسي، إذ قال “إن طهران جاهزة لأي مفاوضات مع الرياض يمكن أن تحد من التوتر في المنطقة”، وفي الرابع عشر من أيار/ مايو 2017، وفي إطار تغطيتها للإنتخابات الإيرانية، قالت قناة cnn إن رئيسي “أعرب عن ترحيبه بأي مفاوضات تشترك فيها السعودية من أجل إيجاد حلول سياسية على أساس تخفيف التوتر وحفظ وحدة واستقلال دول المنطقة”. هذه المواقف ستتكرر مجدداً في عام 2021، وعلى ما يقول رئيسي “نريد علاقات طيبة مع جميع دول الجوار لا سيما السعودية“ مثلما ذكرت قناة “العالم“ الإيرانية (21ـ 6 ـ 2021) وكذلك “لا نمانع في عودة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية وإعادة فتح السفارتين لدى البلدين”، على ما جاء في قناة “روسيا اليوم“ في التاريخ نفسه. ما الدلالات التي تحملها مواقف رئيسي من الإتفاق النووي والرغبة في إحياء العلاقات مع السعودية؟ سبق القول إن رئيسي هو رمز “التيار الثالث“ في إيران، وهذا التيار بقدر انفتاحه نحو الشرق لا يغلق الأبواب مع الغرب، وبعدم معارضته لإحياء الإتفاق النووي وتطبيع العلاقات مع السعودية، يكون في طريقه نحو إنتاج خطاب سياسي داخلي قائم على الآتي: إقرأ على موقع 180 ماذا تريد أميركا من التحالف العسكري الروسي ـ الجزائري؟ ـ 1- الحد من الخطاب الإستقطابي في الداخل الإيراني. ـ 2- الخروج من خطاب الإتهام الموجه نحو الإصلاحيين المؤيدين عموماً للإتفاق النووي وتطبيع العلاقات الإقتصادية والسياسية مع الغرب. ـ 3- الدفع بإتجاه تبني غالبية الأجنحة المحافظة لسياسة براغماتية تأخذ بالمصالح الوطنية العليا، مقابل خفض منسوب الإيديولوجيا في الخطاب السياسي، فضلاً عن الممارسة السياسية. وعلى هذه الحال، ليس هامشياً ولا فاصلة عابرة ما قاله مسيح مهاجري رئيس تحرير صحيفة “جمهوري إسلامي“ شبه الرسمية، في سياق تعليقه على استكمال عملية التفاوض النووي في عهد رئيسي، فـ“المحافظون لم يكونوا مع الإتفاق النووي، وكانوا يعارضونه، والآن تغيرت الأمور”. هذه الرؤية المستمدة من الرؤيتين التقليديتين للإصلاحيين والمحافظين، والقائمة على المزج بينهما، قد تنعكس على التشكيلة الحكومية المرتقبة، ولذلك من غير المستبعد، ان تضم حكومة رئيسي رموزاً إصلاحية أو مقربين من التيار الإصلاحي التقليدي صحيح أن ابراهيم رئيسي، وفي مؤتمره الصحافي الأول بعد الإعلان عن فوزه في الإنتخابات الرئاسية، قال إن سياسته الخارجية “لن تبدأ بالإتفاق النووي ولن تنتهي به“ إلا أنه شدد من جهة أخرى على “ان التعامل مع دول العالم كافة سيكون من مبادئنا، وسياستنا الخارجية ستكون قائمة على التعامل الواسع والمتوازن مع العالم”، وهذا التشديد يعيد إلى الذاكرة ما كان قاله رئيسي في الرابع عشر من أيار/ مايو2017 (وكالة تسنيم) حين أكد انه لو فاز في الإنتخابات، فجدول أعمال سياسته الخارجية سينهض على “التعامل بعزة وإقامة علاقات مع جميع الدول باستثناء الكيان الصهيوني”، وقوله أيضا في تجمع انتخابي إن الكلام عن عدم رغبته في التعامل مع دول العالم في حال فوزه في الانتخابات “كذبة كبيرة” (قناة “الميادين”ـ 16 ـ 5 ـ2017). إن الطموح في توازن السياسة الخارجية، وبالشكل الذي يأمل به الرئيس الإيراني المنتخب، لا يضع إيران في “محور شرقي“ مثلما ذهب بعض التفسيرات إلى قراءة “برنامج التعاون الشامل“ مع الصين، وبرغم أهمية البرنامج المذكور، لناحية التعاون الثنائي الطويل الأمد (25 سنة) في الجوانب الإقتصادية والتجارية والنفطية والإنمائية، فالإتفاق النووي لا يقل أهمية عن برنامج التعاون مع الصين، فهذا الإتفاق وما نتج عنه من “خطة العمل المشتركة”، يعني تطبيعاً اقتصادياً صريحاً مع الغرب، وضمن هذا المعنى، يمكن فهم “سياسة التوازن“ الخارجية التي تحدث رئيسي عنها مرات عدة، فهي لا تجعل الشرق خياراً وحيداً لإيران، ولا تتخلى الأخيرة عن خيارها الغربي، أي أنها في “المنتصف“ بين “برنامج التعاون الشامل“ مع الصين وبين “خطة العمل المشتركة“ مع الغرب. لا شك أن هذه الرؤية المستمدة من الرؤيتين التقليديتين للإصلاحيين والمحافظين، والقائمة على المزج بينهما، قد تنعكس على التشكيلة الحكومية المرتقبة، ولذلك من غير المستبعد، ان تضم حكومة رئيسي رموزاً إصلاحية أو مقربين من التيار الإصلاحي التقليدي، وإبراهيم رئيسي نفسه، كان أشار إلى مثل هذا الإحتمال قبل اربع سنوات، فبعد تقديمه أوراق ترشيحه في الرابع عشر من أيار/ مايو 2017 نسبت إليه وكالة “تسنيم“ قوله إن خوضه للسباق الرئاسي “سيكون بعيداً عن التحزبات السياسية الموجودة”، وبعد فوزه في انتخابات الثامن عشر من حزيران/ يونيو 2021، قال إن حكومته “لن تكون مرتبطة بتيار سياسي خاص أو بجهة سياسية خاصة”. هل هو التوازن في الداخل أيضاً؟ لا يبدو أن الإصلاحين ـ أو بعضاً منهم ـ بعيدون عن هذه المناخات، فصحيفة “شرق” كتبت بعد يومين من حسم النتيجة الإنتخابية لصالح رئيسي “الموضوع الذي كرره ابراهيم رئيسي مراراً في حملاته الانتخابية، أن حكومته ستكون خالية من الإنحياز لتيار معين، وقد قال الشيء نفسه في عام 2017 ورفع الشعار نفسه في هذا العام، لكن هل يستطيع رئيسي تشكيل حكومة غير جهوية؟ وهل يمكننا رؤية شخصيات إصلاحية ومعتدلة في حكومته المقبلة”. تلك التساؤلات، لن تكون الإجابات عنها بعيدة المنال، ولكنها بطبيعة الحال غير مقتصرة على إرادة رئيسي ورغبته، فنصف الإجابات لديه، ونصفها الآخر لدى الأطراف الإصلاحية ومدى قابليتها للإنخراط في حكومة “غير منحازة“ نحو اليمين أو صوب اليسار. كلمة أخيرة: في إطار البحث عن سياسة خارجية إيرانية متوازنة، يكون “التيار الثالث“ في طريقه لإنعاش معادلة “لا شرقية ولا غربية“ التي تم طرحها قبيل وبعيد إسقاط نظام الشاه عام 1979، وطالما الشيء بالشيء يُذكر، فإن حل حزب “جمهوري اسلامي“ عام 1987، عنى إبعاد الدولة عن الصراعات الحزبية بعد اشتدادها في داخل “جمهوري إسلامي“ حول طريقة إدارة الإقتصاد الوطني والسياسية الخارجية لإيران. والشاهد، أن الصراعات الحزبية وصلت منذ عقدين (2009) إلى ذروتها، وبات الإستقطاب سيد المشهد السياسي، ومن هذا المنظور، فـ“التيار الثالث“ يطرح على عاتقه إنتاج “توازن داخلي“ يستند إلى إيديولوجية المحافظين ولا يتغافل عن رؤى الإصلاحيين، فهل ينجح ابراهيم رئيسي في مهمته؟ هي مهمة صعبة بدون شك. ويبقى لدى الحكومة المقبلة الخبر اليقين.