ناصر قنديل-البناء
– ليست القمة الرئاسية التي جمعت الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، وما دار فيها وحولها، الإشارة الوحيدة على صعود الدور الروسي على الساحة الدولية، فحيث تتراجع واشنطن تتقدّم روسيا بصورة مباشرة أو غير مباشرة، لكن روسيا تدرك أن مستقبل الصعود يحتاج للوقوف على أرض صلبة، وبالرغم من النجاحات الكثيرة لروسيا في فرض حضور بارز في ساحات سباق التسلّح وإنتاج أسلحة تسابق الأسلحة الغربية في مجالات متعددة، خصوصاً الـ أس 400 والكورنيت اللذين يشكلان أبرز سمات الحروب المعاصرة، وكذلك نجاح أنابيب الغاز الروسية بحسم المعركة حول مصادر الغاز الأوروبي، تبقى ساحات التقدم والتراجع في الجغرافيا هي العامل الحاسم الثابت في صناعة القوى العظمى.
– لا جدال في مراكز الدراسات العالميّة ولا بين الخبراء حول مكانة منطقة غرب آسيا الممتدة من تركيا الى اليمن طولاً ومن البحر المتوسط حتى إيران عرضاً، في تشكيل الميدان العالمي الأهم لصناعة السياسة، بما فيها من موارد الطاقة وتقاطع خطوط التجارة العالمية، وما فيها من تنوّع عرقي وديني ونزاعات تاريخية، وتعدد حضور القوى العظمى واهتمامها بنفوذها فيها، ولما تمثل من قلب لمنطقة المياه الدافئة التي يعني الوصول الروسي اليها الكثير، خصوصاً مع تطور مفهوم الأمن الإقليمي في قواعد علوم الجغرافيا السياسية، ولمكانة هذه المنطقة في مفهوم الأمن الروسي، وحيث القرب الجغرافي بما هو تحد هو فرصة أيضاً لما يمنحه لروسيا من سهولة التحرك وقدرة التأثير، ولعل هذه العناصر كلها كانت حاضرة في القرار الروسي التاريخي بالخروج من البيئة التقليدية للجوار والتموضع عسكرياً في سورية، في لحظة شديدة الخطر، حتى وصف كثيرون القرار الروسي بالمغامرة لما كان يحتشد في سورية من حضور دولي وإقليمي ومن تشكيلات إرهابية، ومن احتمال التورط بحروب إقليمية وربما دولية، وخطر الغرق في أفغانستان أخرى، وهو ما جرى التلويح به أمام القيادة الروسية غداة هذا القرار.
– نجحت روسيا في توقيت التحرك مع ظهور تنظيم داعش، وبعد التموضع الأميركي العلني بإسم تحالف محاربة الإرهاب، والأهم بعد انكشاف ما مثله نموذج الربيع العربي في عيون المواطنين العرب من خدعة سرقت أحلامهم بالتغيير لتستبدل الحد الأدنى من مقومات الوطن والدولة، بفوضى شاملة قسمت الأوطان ودمرت العمران وقوضت أركان الدولة، لتقدم روسيا بديلاً هو الحفاظ على مقومات الأوطان والدول، مهما كانت معايير تقدمها متدنية، والسعي من قلب معادلات الحفاظ عليها لرفع درجة مطابقتها لمعايير أعلى. ويقارن العالم كله اليوم بين نموذج ليبيا حيث ينتمي كل اللاعبين إلى مظلات متعددة للمعسكر الغربي، ونموذج سورية الذي قدّمته روسيا، فها هي ليبيا مقسمة بلا أفق مستقبلي رغم مشاريع التسويات، وصراع على السلطة والثروة والنفوذ بين مكونات ترتبط بمرجعيات إقليمية موزعة على المعسكر الغربي، والإرهاب ينهش أمن أهلها، بينما سورية تستعيد جغرافيتها من الجماعات الإرهابية لصالح دولة يتعاظم الالتفاف الشعبي حولها وتبدو عنواناً لمستقبل سورية الذي لم يعد موضع جدال.
– أعداء روسيا وأصدقاء روسيا والواقفون على الحياد، يقاربون الصعود الروسي انطلاقاً من سورية، فالأعداء يضعون ثقلهم لإفشال النموذج السوري، من خلال العقوبات والإفقار ومنع عودة النازحين، وتجميد مشاريع إعادة الإعمار، وربط الإفراج عنها بشروط تنسف الإنجاز الروسي، والأصدقاء يضعون ثقلهم لنجاح النموذج السوري لإدراكهم أن ما تحقق نصف إنجاز، وان النصف الثاني هو بتحرير قضايا عودة النازحين وإعادة الإعمار من الشروط الغربية، وهذا يعني الحاجة الماسة لتفاهم روسي إيراني صيني، يعوّض المقاطعة الغربية الهادفة للإبتزاز السياسي، أما الواقفون على الحياد فينتظرون مصير النموذج ليحكموا عما إذا كان ما تستطيع روسيا تقديمه هو مجرد إنجاز عسكري يتبعه نموذج دولة فاشلة، ولذلك فإن التحدي الذي ينتظر روسيا هو الجواب السريع عما إذا كان ممكناً إنهاء الوضع الشاذ في إدلب وشرق الفرات سياسياً، من دون الوقوع في فخاخ المماطلة التركية والأميركية، وإلا بالعودة لخيار الحسم العسكري أو الأمني أو بجمع كليهما وما معهما من مشاريع احتواء وتفاوض، وبالتوازي بلورة خطة نهوض اقتصادي بسورية بالتنسيق مع دولتها، وتقاسم أعبائها مع إيران والصين، ونقطة البداية مشاريع كبرى بحجم الربط الحديديّ بين سورية والعراق وإيران، وخطط لإسكان وتشغيل النازحين العائدين.
– من المفيد التذكير أن الصعود الأميركي الكبير بعد الحرب العالمية الثانية لم تصنعه انتصارات الحرب وحدها، بل صنعه تقديم نموذجي اليابان وألمانيا بنظام سياسي يضمن الاستقرار ونهوض اقتصادي يبهر الأبصار، ولا نغالي إذا قلنا إن سورية هي في هذه المكانة بالنسبة لمشروع الصعود الروسي.
– *نص المشاركة في مؤتمر نظمه يوم أمس في 22-6-2021 «المركز الحكومي الدولي للعلوم وتكنولوجيا المعلومات» في موسكو «ICSTI « حول «روسيا والشرق الأوسط» بمشاركة عدد من الخبراء والباحثين من روسيا وأوروبا والدول العربية والإسلامية.