باريس ـ بشارة غانم البون
ما هي النتائج الأولية للدورة الأولى لإنتخابات مجالس المناطق والأقاليم في فرنسا، وكيف تبدو صورة الوضع السياسي الداخلي قبل الدورة الثانية يوم الاحد المقبل في 27 يونيو/ حزيران الحالي؟ بعد أقل من 24 ساعة على اقفال صناديق الاقتراع في فرنسا لانتخابات مجالس المناطق والاقاليم، بدأت تظهر المؤشرات الأولية التي ستطبع الحياة السياسية الداخلية الفرنسية في الأشهر المقبلة، وذلك في حال تأكدت في الدورة الثانية النتائج التي أتت بها الدورة الأولى. وقد خرجت انتخابات الأحد الماضي بسلسلة معطيات لم تخلُ من عنصر المفاجأة. أولاً، أدنى نسبة تاريخية في التصويت: سجلت الدورة الأولى نسبة إنكفاء قياسية عن صناديق الإقتراع، وبلغت نسبة الامتناع عن التصويت 67.6 في المئة. وجاء تنظيم هذه الانتخابات، التي أرجئت ثلاثة أشهر بسبب الأزمة الوبائية، في وقت لا يزال فيه فيروس كورونا يودي بحياة العديد من الفرنسيين. وإذا كانت الإجراءات الصحية منعت الأحزاب السياسية من خوض حملات انتخابية تحضيرية كالمعتاد، كان لافتاً للإنتباه أن التراجع الكبير في الإقبال على التصويت تزامن مع انتهاء أشهر من القيود الصارمة على الحريات المدنية بسبب جائحة كورونا وفي ظل طقس مشمس شجّع الفرنسيين على الإستفادة منه على حساب صناديق الاقتراع! ثانياً، فشل ذريع لحزب ماكرون: شكلت نتائج الدورة الأولى، بنظر معظم المراقبين، “صدمة كبيرة” للأكثرية الحاكمة المتمثلة بحزب “الجمهورية الى الأمام” الذي أسّسه الرئيس ايمانويل ماكرون، وذلك بسبب فشله الذريع في الحصول على التأييد الشعبي لطروحاته ونسب التصويت الضئيلة التي نالها وعجزه عن تسجيل أي فوز في أي منطقة فرنسية. ويبدو أن حزب ماكرون قد دفع في هذه الانتخابات ثمن حداثة عمره وقلة تمرسه السياسي، ذلك أنه لم يتمكن من ترسيخ سمعته في الحياة الفرنسية العامة على عكس ما يتمتع به اليمين الوسط الجمهوري من حضور عمره عدة عقود من الزمن. ومن اسباب تعثره ايضاً ازدياد حدة التململ الشعبي والانتقادات التي يواجهها ماكرون نتيجة سياساته الاقتصادية والاجتماعية والصحية والامنية طوال اربعة اعوام. والأصعب من ذلك ايضاً ان محاولة ماكرون ابعاد بعض كبار الشخصيات اليمينية المعتدلة عن طريق ترشحه مجدداً للانتخابات الرئاسية المقررة بعد أقل من سنة، باءت بالفشل. وأبلغ مثل على ذلك المعركة الانتخابية المفتعلة في منطقة “هوت دو فرانس”، فقد طلب الرئيس الفرنسي من خمسة من وزرائه، وفي مقدمهم وزير العدل ايريك دوبون موريتي الترشح في هذه المنطقة بالذات بهدف إسقاط رئيسها الوزير السابق كزافيه برتران، وبالتالي حرق فرصته في الترشح للانتخابات الرئاسية، خصوصاً ان برتران يعد من ابرز الوجوه اليمينية المعتدلة والوسطية القوية والمؤهلة لخوض المعركة الرئاسية المقبلة. وستكون لهذه الهزيمة المحلية والاقليمية لماكرون أبعادها السياسية على المستوى الوطني في الفترة المقبلة. وفي المقابل، عزّز برتران مكانته وموقعه قبل خوض غمار رئاسيات 2022. تمكن “الجمهوريون” (يمين وسط معتدل) من تعزيز أوراقهم، بدليل أن رؤساء المناطق والاقاليم المنتمين الى هذا التيار اليميني التقليدي نجحوا في تحصين مواقعهم والدفاع عنها والاحتفاظ بها برغم الهجوم المزدوج الذي تعرضوا له من انصار ماكرون ومحازبي لوبن ثالثاً، تراجع مفاجىء لليمين المتطرف: على عكس توقعات واستطلاعات رأي عديدة، جاءت نتائج الدورة الاولى “مخيبة” لآمال رئيسة حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف مارين لوبن. فقد سجلت النتائج تراجعاً ملحوظاً في التأييد الشعبي للحزب الذي فقد فرص وصوله الى رئاسة عدد من المناطق باستثاء ربما منطقة واحدة هي “بروفانس ألب كوت دازور” في الجنوب الفرنسي. وحاولت لوبن اخفاء مشاعر الحرج والاحباط وتعليل التراجع بضعف نسبة الاقتراع متهمة حكومة جان كاستكس بعدم تخصيص مساحات إعلامية وترويجية كبيرة للمرشحين لكي يشرحوا برامجهم الانتخابية، ووجهت لوبن نداءً الى مناصريها لحثهم على التوجه بكثافة الى صناديق الاقتراع الأحد المقبل قائلة لهم : “الانتخاب ليس حقاً فقط بل هو واجب. عدم التصويت يعني عدم معاقبتهم (تقصد رؤساء الأقاليم الحاليين) بل تركهم في أماكنهم لست سنوات أخرى”. وتابعت “ارفعوا الحجر الصحي عن أفكاركم.. واذهبوا بكثافة إلى مكاتب التصويت لتغيير الكفة”!. ويبدو ان الجهود المضنية التي بذلتها لوبن لتحسين صورة حزبها باتباع نهج أقل حدة بالنسبة للسياسات الشعبوية حيال مواضيع الهجرة والأمن لم تلقَ التجاوب الشعبي المطلوب. رابعاً، يمين الوسط المعتدل يُعزّز مكانته: تمكن حزب “الجمهوريون” (يمين وسط معتدل) من تعزيز أوراقه، بدليل أن رؤساء المناطق والاقاليم المنتمين الى هذا التيار اليميني التقليدي نجحوا في تعزيز نفوذهم وتحصين مواقعهم والدفاع عنها والاحتفاظ بها برغم الهجوم المزدوج الذي تعرضوا له من انصار ماكرون ومحازبي لوبن. ووصف كريستيان جاكوب رئيس حزب “الجمهوريون”، هزيمة الأغلبية الرئاسية بأنها “أسوأ هزيمة يحققها حزب في السلطة”. ومن شأن هذا التقدم اعطاء دفع مهم لهذا الحزب في اطار الاستعداد للانتخابات الرئاسية وتقديم مرشح له حظوظ جدية في منافسة ماكرون. إقرأ على موقع 180 لم تولد المرأة اللبنانية في 17 تشرين خامساً، محافظة اليسار وأنصار البيئة على مواقعهم: برغم تراجع الحزب الاشتراكي المستمر منذ عدة أعوام على المستوى الوطني الا انه تمكن من المحافظة على مراكزه على الصعيد المناطقي والاقليمي، بينما أحرز أنصار البيئة ـ حزب الخضر تقدماً ملموساً يساهم في تدعيم وجودهم الانتخابي وتشكيلهم قوة سياسية فاعلة في قلب اليسار الفرنسي. أما النتائج النهائية في الدورة الثانية المقررة الأحد المقبل، فتبقى رهن عوامل عديدة أبرزها: ارتفاع نسبة المقترعين؛ التحالفات السياسية بين الدورتين (القانون الانتخابي لحظ امكان دمج اللوائح بين الدورتين من خلال قيام تحالفات جديدة اضافة الى إقصاء كل لائحة لم تنل عشرة بالمئة من اصوات المقترعين في الدورة الاولى)؛ تجيير اصوات الاعتدال اليميني واليساري لمصلحة اللوائح المنافسة لحزب لوبن بهدف تكوين “جبهة وطنية” في مواجهة محاولة وصول اليمين المتطرف الى رئاسة هذه المنطقة او تلك. الأكيد ان هذه الانتخابات، مع كل ما تحمله من مفاجآت، ستترك بصمة واضحة على مسار الحياة السياسية الداخلية الفرنسية خصوصاً في ضوء الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المقررة في أيار/ مايو 2022.