مهدي عقيل
حين يُسلط الضوء على العلاقة بين الإمارات وإيران، يتبادر إلى الذهن أنه ثمة تجارة ثنائية قائمة بين البلدين، بحكم الجيرة والحاجة المتبادلة، لكن الواقع يشي بأكثر من تجارة. هناك سياسة وأمن ومصالح إلى حد الإستنتاج أنك أمام علاقة بين حليفين وليس خصمين! منذ سنوات طويلة، إعتمد الإيرانيون دولة الإمارات بوابة خلفية للقفز فوق العقوبات الأميركية، في مراحلها وأشكالها كافة، حتى أن حجم الإستثمارات الإيرانية وصل في إحدى المراحل إلى حدود الـ 300 مليار دولار، أي المرتبة الثانية بعد الإستثمارات الأميركية، وهو رقم تراجع بعد العام 2018 تاريخ خروج الولايات المتحدة من الإتفاق النووي، الأمر الذي سهّل للإيرانيين فتح نوافذ خلفية مع دول أخرى أبرزها سلطنة عمان، من دون التفريط بالبوابة الإماراتية. حتى أن التجارة الثنائية القائمة بين البلدين ليست بالأمر البسيط، إذ تتصدر الإمارات قائمة الدول العربية من حيث التبادل التجاري مع طهران، وقد تعدّت الـ 11 مليار دولار عام 2017، وهي تعاود الازدهار بعد تراجعها عام 2018 إثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، ما أجبر الإمارات على الالتزام إلى حد ما بسياسة “الضغوط القصوى” التي إعتمدها دونالد ترامب، مع الاحتفاظ ببعض الاستثناءات التي أبقت على جزء يسير من تبادل تجاري لا يمكن الاستغناء عنه، خصوصاً بالنسبة إلى طهران، إذ تعد الإمارات شريان الحياة الرئيسي لإيران في ظل العقوبات الأميركية. كما أن الولايات المتحدة تغض الطرف عن بعض الشركات الإماراتية التي تتولى تسهيل تصدير النفط الإيراني عبر مرفأ الفجيرة، كون واشنطن لا ترغب في تضييق الخناق بشكل كامل على طهران. وتشير إحصاءات إيران إلى استيرادها 10% من كل وارداتها من الإمارات، فيما تصدر نحو 15% من كل صادراتها عن طريق الأخيرة. وتتم 70 إلى 80% من التحويلات المالية الإيرانية عن طريق الإمارات، وينشط نحو ثمانية آلاف رجل أعمال إيراني على الساحة الإماراتية من خلال حوالي ستة إلى ثمانية آلاف شركة مسجَّلة هناك، حيث تستقطب دبي العدد الأكبر منها بطبيعة الحال، قبل أن يتجه العديد منها إلى سلطنة عمان بعد 2018 (أكثر من 250 شركة إيرانية تسجلت هناك في السنوات الثلاث الأخيرة). لم تمنع حرب اليمن (2015) وقبلها الأزمة السورية (2011)، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران (2016)، من استمرار التجارة الثنائية والتواصل والتنسيق بين إيران والإمارات، لا سيما في المواضيع الأمنية أضف إلى تلك الحركة التجارية النشطة، أن شركات طيران البلدين تُسير نحو 200 رحلة أسبوعياً تُقل نحو 100 ألف سائح إيراني، فضلاً عن أكثر من نصف مليون إيراني يقطنون في الجارة الجنوبية، وهم من أكبر الجاليات المقيمة في الإمارات عدداً، وبينهم آلاف الطلاب الذين يحصّلون دراساتهم في جامعات أبو ظبي ودبي. لم تتخلف أبو ظبي عن نجدة جارتها وتقديم العون لها خلال جائحة كورونا، حيث أرسلت نحو 40 طناً من الإمدادات والمعدات الطبية لدعمها في مواجهة الفيروس وذلك بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، بدءاً من منتصف أذار/ مارس 2020. ومن الطبيعي، وفي خضم مفاوضات فيينا النووية، والحوار السعودي الإيراني، في موازاتها، أن تشهد العلاقات بين الإمارات وإيران تنشيطاً من الجانبين. وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً، لم تمنع حرب اليمن (2015) وقبلها الأزمة السورية (2011)، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران (2016)، من استمرار التجارة الثنائية والتواصل والتنسيق بين البلدين، لا سيما في المواضيع الأمنية. حتى التطبيع الإماراتي مع “إسرائيل” لم يعكر صفو العلاقة بين ابو ظبي وطهران، ولم تتعد ردود الفعل حدود مواقف إعلامية لمسؤولين إيرانيين وإن حمل بعضها في طياته تهديداً للدولة الجارة من أن تتحول إلى مصدر تهديد لأمن الجمهورية الإسلامية، من خلال منح “إسرائيل” موطئ قدم في الخليج. تبدو المصالح المشتركة بين البلدين الخليجيين أكبر من أن تحدّها أو تقلصها حرب من هنا أو أزمة من هناك، فإيران التي قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع مصر عام 1979 إثر توقيع الأخيرة اتفاقية كامب ديفيد مع “إسرائيل”، صارت أكثر واقعية. لم تعد علاقة أي دولة مع “إسرائيل” تشكل مانعاً لعلاقة إيران معها، سواء كانت هذه الدولة عربية أم أجنبية. فإيران لم تنتقل من إيران الثورة إلى إيران الدولة وحسب، إنما أمست دولة براغماتية من الطراز الأول لا تحول أمامها أية موانع عندما يتعلق الأمر بحماية وصيانة مصالحها القومية. أبو ظبي لا تريد للجزر أن تشكل حجر عثرة في سبيل تطوير العلاقات بين البلدين، وهذه السياسة إنتهجها الأمير المؤسس الشيخ زايد وسار عليها أولاده من بعده، اي ترك حل قضية الجزر للزمن وفي المقابل، تبدو الرغبة الإماراتية جامحة في استمرار العلاقة مع إيران، مهما تعددت الخلافات والأزمات، إلى درجة أن ساسة الإمارات يغمضون أعينهم عن الجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) المتنازع عليها بين أبو ظبي وطهران، والتي تقول الأولى إنها “محتلة” من الثانية منذ نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1971، أي قبل يومين من تأسيس دولة الإمارات ونيل استقلالها عن بريطانيا، والسبب أن أبو ظبي لا تريد للجزر أن تشكل حجر عثرة في سبيل تطوير العلاقات بين البلدين، وهذه السياسة إنتهجها الأمير المؤسس الشيخ زايد وسار عليها أولاده من بعده، اي ترك حل قضية الجزر للزمن! والمفارقة أنه في عز التحضير الإماراتي “الإسرائيلي” لما تسمى “اتفاقات إبراهام”، أي قبل سنة من حفل التوقيع في واشنطن في 15 سبتمبر/ أيلول 2020، كانت الإمارات تعقد اجتماعات أمنية مع إيران بهدف ترتيب الأوضاع الأمنية بين البلدين، أو بالأحرى، ترتيب وضعها الأمني الداخلي الذي بدا مشوشاً بعيد إعلان الحوثيين استهداف مُسيراتهم لمطاري أبو ظبي ودبي الدوليين ومفاعل “براك” النووي في مدينة أبو ظبي عام 2018، برغم نفي السلطات الإماراتية لتلك الأحداث، إضافة إلى استهداف ناقلات قبالة سواحلها عام 2019. وكان لافتاً للإنتباه أن الإمارات رفضت اتهام إيران بالوقوف خلف تلك الهجمات، وهو الموقف نفسه الذي اتخذته إثر الهجوم الذي وقع في وقت لاحق واستهدف سفينتين في خليج عُمان.. والهدف هو محاولة خفض حدة التوتر بين البلدين، مخالفة بذلك المواقف التي ذهبت إليها السعودية والولايات المتحدة بتحميلهما إيران علناً المسؤولية عن الحوادث في مياه الخليج. إقرأ على موقع 180 “تويتر” و”فايسبوك”.. فائض القوة يُسكت ترامب تحسباً! وبقدر ما تولي الإمارات أهمية لتوطيد علاقاتها بـ”إسرائيل” تحرص في المقابل على ثبات علاقتها بإيران، حتى أن الشخص نفسه المسؤول عن التنسيق والتواصل مع الدولتين، هو الشيخ طحنون بن زايد (مستشار الأمن القومي للإمارات)، وهو الشقيق الأصغر والأقرب لولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، ويُوصف بأنه “رجل الظل والمهمات الصعبة والسرية”. وقد زار طهران في 14 تشرين الثاني/ أكتوبر 2019. وقد لا تكون هذه الزيارة يتيمة فضلاً عن اتصالات ولقاءات بين الجانبين بعيداً عن الأضواء، وبعضها جرى هذه السنة في بغداد. يُفهم من ذلك أن حكّام الإمارات ينظرون إلى إيران بأنها ضمانة إستراتيجية لأمنهم القومي، ولا يمكن إغفال دور إيران المحوري في أمن الخليج، برغم كل محاولات دول الخليج، ومنها الإمارات، تعزيز ترسانتهم العسكرية عن طريق شراء 50 مقاتلة من طراز أف – 35 و18 طائرة مسيّرة مسلحة ومعدات دفاعية أخرى في صفقة إماراتية بلغت قيمتها 23 مليار دولار، فضلاً عن تنويع التحالفات الدولية للإمارات، أو عن طريق تطبيع علاقات الإمارات مع “إسرائيل” والاعتماد عليها كقوة معتبرة في الشرق الأوسط، في ظل قرار الولايات المتحدة بتخفيف حضورها العسكري في الخليج. في السياق ذاته، تعتبر الإمارات أن الحماية الأنجع لأمنها واستقرارها عنوانها حماية أمن وإستقرار منطقة الخليج كلها. لا تتحقق الطموحات الأمبراطورية للإمارة الصغيرة إلا إذا كانت علاقتها مع طهران مستقرة في الحد الأدنى، ويغلب فيها طابع المشاركة على طابع المواجهة المحفوف بالمخاطر مع دولة بحجم إيران وقدراتها الهائلة ونفوذها المتنامي والمترامي في الإقليم كل التهليل الخليجي بالعداء لإيران لا تأخذ به الإمارات إلا من باب الإعلام وحسب، أو بقدر ما يحد من تمدد النفوذ الإيراني في الإقليم، وغالباً ما لا تسير في ركب العداء لإيران كما تشتهي لها حليفتها الاستراتيجية السعودية، وعندما تمت مهاجمة السفارة السعودية في طهران في يناير/ كانون الثاني 2016، قامت الإمارات بتخفيض مستوى العلاقات، لكنها أبقت على تمثيلها الدبلوماسي في طهران، برغم قرار السعودية والبحرين ودول عديدة بقطع العلاقات مع طهران. ففي الوقت الذي تتبنى فيه السعودية موقفاً عدائياً صريحاً (تراجعت نبرته في الآونة الأخيرة) ضد إيران، تحافظ أبو ظبي التي كانت تعد في خندق واحد مع الرياض على علاقاتها مع طهران. وحتى في موضوع اليمن ثمة استرتيجية إماراتية مختلفة تُرجمت بتقليص الوجود العسكري الإماراتي في الساحة اليمنية الجنوبية بشكل ملحوظ تجنباً لاستهداف الحوثيين ولعدم إستفزاز الإيرانيين، وقد إقتضى ذلك عقد اجتماعات أمنية علنية مع الإيرانيين، حيث التقى قائدا حرس حدود الإمارات وإيران (محمد علي مصلح الأحبابي وقاسم رضائي) لأجل “تعزيز العلاقات الدبلوماسية وتأمين منطقة الخليج الفارسي وبحر عمان”، وهناك من خفف من أهمية اللقاء واعتبره مجرد “عمل تنسيقي لتنظيم عملية الصيد”. لكن الحقيقة أن تدهور الأوضاع على وقع الهجمات على ناقلات النفط في مياه الخليج وتهديد الحوثيين بضرب الإمارات، كانت السبب الرئيسي لانعقاد هذا الاجتماع الأمني في 30 تموز/ يوليو 2019، وقبله بأسبوعين عقد وفد أمني إماراتي آخر لقاءات مع مسؤولين إيرانيين في طهران. ثمة قناعة أن الإمارات لا سيما إمارة دبي التي تستقطب النسبة الأكبر من الاستثمارات والتجارة والتعاملات المالية في المنطقة تستشعر الخطر الإيراني (صاروخ أو تفجير واحد في منطقة استثمارية في الإمارات ربما يتسبب بإنهيار منظومة إستثمارية وإقتصادية ومالية كبيرة)، لا بل تدرك أبو ظبي أن أي تصعيد عسكري بين طهران وواشنطن ستكون هي أولى ضحاياه. يسري ذلك أيضاً على أي مواجهة إيرانية ـ “إسرائيلية”. وعليه ليس غريباً على الإمارات بأن تشكل مركز تقاطعات للحلفاء والأعداء معاً، فالدولة التي تمتد موانئها من مياه الخليج إلى البحر الأحمر ولديها طموح أمبراطوري بهذا الخصوص، لا بدّ وأن تكون على تواصل مع الجميع، ولا يتسنّى لها لعب هذا الدور لو لم تكن علاقتها على ما يرام مع كل من واشنطن وتل أبيب. وفي المقابل، لا تتحقق الطموحات الأمبراطورية للإمارة الصغيرة إلا إذا كانت علاقتها مع طهران مستقرة في الحد الأدنى، ويغلب فيها طابع المشاركة على طابع المواجهة المحفوف بالمخاطر مع دولة بحجم إيران وقدراتها الهائلة ونفوذها المتنامي والمترامي في الإقليم.