“ليبانون ديبايت”- بولس عيسى
في الشعر الجاهلي العديد من قصائد الإستجداء الشعري في بلاط الأعطيات، إلا أن ما شهده اللبنانيون من استعطاء واستجداء وتسوّل سياسي ظهرالأحد الماضي، فاق بأشواط ما كنّا نقرأه من نقص في العلاقة الناشئة بين شعراء البلاط وأسيادهم ورعونتها.
فما شهدناه من تبخيس للذات يُظهر أن رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل يستهين أي شيء للوصول إلى مبتغاه، فما من كرامة تردعه عن الإسترحام، والإستعطاف، والتسوّل، والشحادة، وغيرها من الأمور التي إن دلّت على شيء، فعلى ما يعانيه هذا الشخص من ترهّل فكري ووجداني وصل به إلى حد الإنكباب السياسي علانيّةً عند أقدام أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله. ولكنكل من يعرف هذا الشخص لم يتفاجأ أبداً بما أقدم عليه، فهو أكثر من يجيد لعبة النوم عند أعتاب الأعطيات وتحت أدراج منازلهم، وهذا باعتراف علنيّ لزوجته.
إلا أن السؤال البديهي هو، هل كان مضطراً أن يستجدي تدخل السيد حسن نصرالله في موضوع الحكومة ويحكّمه في موضوع التشكيل والتأليف؟ هل كان مضطراً أن يأتمن أمين عام “حزب الله” على حقوق المسيحيين؟
في هذا الإطار، لفتت أوساط مطلعة خلال قيامها بقراءة سياسية لكلام باسيل، إلى مسألة أساسية وهي أنه لم يكن مضطراً لكل حفلة التزلّف هذه التي قام بها في مؤتمره الصحافي الأخير.
وكشفت بناءً على معلومات، أن باسيل كان قد أطلع قيادة “حزب الله” على مضمون ما سيعلنه في المؤتمر الصحافي، والتي فوجئت لاحقاً، بأن يصل به الدرك إلى حد إعلان ما كان قد أخبرهم به، فهي اعتبرت أن ما نقله هو جزء من الذي يفكّر به وليس من الممكن أن يعلنه، إلا أن هذه القيادة أخطأت في تقديرها لمدى الإسفاف السياسي، وإذلال النفس الذي من الممكن أن يصل إليه هذا الشخص.
ولكن في معزل عن كل ذلك، ما سمعناه من إستجداء، تعتبر الأوساط أن هذا الطلب يدل بشكل واضح على حاجة العهد إلى حكومة، وأنه لا يستطيع أن يستمرّ في الفراغ باعتبار أنه يدرك أولاً أن حكومة تصريف الأعمال غير قادرة على مواكبة المرحلة من الآن وحتى موعد إجراء الإنتخابات النيابية المقبلة. كما يدرك ثانياً أن الضغوط الشعبية من جهة، والدولية من الجهة الأخرى، تهدف لتشكيل حكومة باعتبار أن الوضع اللبناني إن على الصعيد الإقتصادي أو على صعيد الأمن الإجتماعي لم يعد يحتمل. ويدرك ثالثاً أن العهد من الآن وحتى إجراء الإنتخابات، سيتضرّر بشكل كبير في حال لم تتألف الحكومة، وبالتالي، هو يريد حكومة، ولكنه يريدها بشروطه التي تؤمن له الإمساك بكل مفاصل الحكومة الأساسية لكي يتمكن من الحفاظ على نفوذه في المرحلة المتبقية من الولاية الرئاسية وما بعد انتهائها.
ولأن الحكومة بالنسبة إليه مصيرية جداً لاستمرارية العهد أولاً، ولكي يتجنّب المزيد من التدهور ثانياً، ولكي يتجنّب المزيد من الضغوط الشعبية ثالثاً، ولكي يستطيع أن يعيد الوصل مع المجتمع الدولي رابعاً لتخفيف ضغوط الأخير عليه، ولكل هذه الأسباب مجتمعةً بات التأليف أمراً ملحاً بالنسبة له. إلا أن هذا الإلحاح ليس أبداً على قاعدة لتكن الحكومة أياً تكن هذه الحكومة، باعتبار أنه لا يريد حكومة برئاسة سعد الحريري، والذي يدرك سلفاً أن لديه تحالفات داخلية يشتبك معها العهد، وذلك لسبب جوهري وهو أن لهذا التحالف الداخلي المؤلف من الحريري ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس “الحزب التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط، على رغم تمايز الأخير عن الإثنين الأولين في المرحلة الحالية عبر دعوته للتسوية، لهذا التحالف مرشّحه لرئاسة الجمهورية، وبالتالي، لا يمكن لباسيل أن يسمح لهذا التحالف باستلام مقاليد السلطة في المرحلة الحالية، ولهذا السبب ذهب لاهثاً إلى السيد نصرالله راجياً ضغطه على بري والحريري لـ”إقناعهما” بوسائل الإقناع التي يجيدها، بالذهاب نحو تنحي الحريري، وتشكيل حكومة إنتخابات أو تشكيل حكومة برئاسة الحريري ولكن بشروط باسيل.
ولفتت الأوساط، إلى أن الأولوية بالنسبة لباسيل هي أن تتشكل حكومة من دون سعد الحريري وأن يأتى برئيس حكومة على غرار حسان دياب يعمل في المرحلة الأولى على انتزاع ثقة الناس والمجتمع الدولي، ويفتح خطوط سياسية معيّنة، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تخفيف الأجواء المحتقنة إلى درجة الإنفجار في البلاد، من أجل إعطاء باسيل فرصة للإمساك بمفاصل السلطة والنفوذ في الدولة بالشكل الكامل الذي يطمح له، وهنا بيت القصيد فطموح القبض على مقاليد السلطة في البلاد بشكل كامل دفع باسيل إلى استعطاء السيد نصرالله حسنة حكومة “على طبطابه” علانيّة وعلى الهواء ومن دون أن يرفّ له جفن، وبوقاحة إن دلّت على شيء فعلى درجة تبخيس الأخير لنفسه.
واعتبرت الأوساط، أنه إذا ما دلّ هذا المؤتمر الصحافي على شيء فعلى مدى حاجته لهذه الحكومة المحجوزة لأنه يدرك أنه الأكثر تضرراً على المستوى السياسي من عدم تشكيلها. وأكّدت أن باسيل أدرك في مؤتمره الصحافي أن الرأي العام لم يتأثر بمسألة الحقوق والتعبئة المسيحيّة خصوصاً وأن غبطة أبينا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، كان جازماً وحاسماً بان القضية ليست أبداً استعادة الصلاحيات، وإنما مسؤوليات ومصالح سلطوية، كما أن حزب “القوّات اللبنانيّة” الأكبر شعبياً على الساحة المسيحية اليوم يقف ضد مقاربته هذه، الأمر الذي جعله مكشوفاً وعاجزاً عن “نصب” الناس سياسياً كما جرت العادة باعتبار أن الجميع يدرك أنه يخوض معركة سلطة ونفوذ شخصي وحزبي وليس معركة دستورية ومسيحية وصلاحيات أبداً.
وأوضحت أن أولوية الرأي العام هي وضعيته المعيشية المنهارة وليس بهلونيات سياسية ساذجة، متسائلة، ماذا سيفعل السيد نصرالله؟ هل سيتكرّم على المتسوّل السياسي باسيل بكسرة خبز من على مائدته، أم أنه سيغضّ الطرف عنه وكأنه لا يسمع استجداءه؟ معتبرةً أنه في حال “طنّش” الحزب استعطاء باسيل، فعندها ستذهب العلاقة ما بين الطرفين إلى مزيد من التردي لأن العهد يعتبر أن هذه هي الرصاصة الأخيرة في جعبته، فخيار الدعوة إلى طاولة حوار ساقط م قبل التفكير به لأن القيادات السياسيّة لن تلبي دعوة مماثلة من قبل رئيس الجمهوريّة، فضلاً عن أنه غير قادر على الذهاب باتجاه الإنتخابات النيابيّة المبكرة بعدما “شمط” الحزب أُذُن باسيل مسبقاً عندما سوّلت له نفسه مجرّد التلويح بها.
وأشارت الأوساط، إلى أننا في الأيام المقبلة القليلة علينا أن نترقّب الإجابة على أسئلة عدّة مشابهة، هل ستؤدي رصاصة العهد الأخيرة التي أطلقها باسيل الغرض المطلوب؟ وكيف سيتصرّف السيد نصرالله؟ هل يستطيع أن يلبي استغاثة باسيل وينحاز إليه على حساب مصلحة بري والحريري؟ ما هو “الأرنب” الذي سيخرجه السيد نصرالله لمحاولة حل المشكلة؟ كيف سيتصرّف وعلي أي قاعدة؟ هل سيبقى مُمسكاً للعصا من وسطها ويقف على الحياد؟ هل من مخرج من الممكن الاتفاق عليه؟ هل تكون حكومة الإنتخابات هي المخرج، شرط أن يكون المعبر الإلزامي لرئيسها هو بيت الوسط وليس أبداً ولا من قريب أو بعيد قصر بعبدا، هذه الحكومة التي من شأنها أن تحفظ ماء الوجه من جهة للحريري؟