علي شندب-اللواء
يدأب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بإلحاح، أن يحجز لنفسه موقعاً متقدماً أو نديّاً بين دهاقنة السياسة اللبنانية الذين عبروا من الحرب الأهلية البينية الى إتفاق الطائف. فلقد حاول أن يكون ندّاً لرئيس مجلس النواب نبيه بري عندما رشقه بصلية «البلطجي». ويعتقد باسيل أن حجم كتلته النيابية الأكبر عدداً من كتلة برّي تسوّغ له النديّة معه.
البلطجي نبيه بري، كلمة استند فيها باسيل الى تحالفه مع حزب الله ضمن تفاهم مار مخايل، ويومها كاد الشارع أن ينزلق الى توتر خطير لولا تدارك حزب الله الأمر والضرب على يد باسيل وإفهامه أن بري خط أحمر، لكنه مستمر في اللعب مع بري.
كما تجاوز باسيل التعامل بنديّة مع سعد الحريري، فمندرجات ما بعد إستقالة الحريري تحت ضغط 17 تشرين وشت بتعامل باسيل مع الحريري بإستعلاء ظهّرته العقد التي يتناسلها باسيل في تشكيل الحكومة وآخرها عقدة تسمية الحريري لوزيرين مسيحيين.
بالأمس طرح باسيل نفسه بوضوح، ندّاً لزعيم حزب الله رغم وضعه حقوق المسيحيين ونفسه بما ومن يمثل تحت عباءة نصر الله. مشهد الندّية جحّظه باسيل من خلال الاستعانة بصديق هو نصر الله نفسه. تماماً كما فعل نصر الله نفسه عندما قرّر الإستعانة بصديق هو نبيه برّي وفوّضه العمل على تليين رؤوس العقد الحامية التي تعيق تشكيل الحكومة بين طرفي التشكيل. أطاح باسيل بمبادرة برّي، التي هي في الأساس مبادرة نصر الله وأجهضها، وبرّر رفضه لها بكونها حسب زعمه تتضمن «مثالثة مقنّعة»، طارحا ثنائية يحتكر فيها لنفسه تسمية الوزراء المسحييين.
في حيثيات تفويض نصرالله لبرّي.. مكانة الرجل، وخبرته السياسية، وقدرته على توفير المخارج، والأهم موقعه الدستوري، فهو رئيس مجلس النواب. لكن ماذا عن حيثيات تفويض باسيل لنصر الله سوى الإستقواء به على برّي والحريري وكل خصومه. وقد بدا باسيل خلال ندائه لنصرالله متجاوزاً للحيثيات الدستورية المفقودة أصلاً في حالة زعيم حزب الله الذي ظهّره باسيل بموقع مرشد الجمهورية اللبنانية، والمؤتمن على «حقوق المسيحيين» فيها، وذلك على مرأى ومسمع راعي الكنيسة المسيحية، فضلا عن مفوّض الأمن والسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي اعتبر أن «جوهر الأزمة الحكومية في لبنان ينبع من تناحر الزعماء اللبنانيين على السلطة» وأن المشكلة في لبنان «صناعة وطنية لا خارجية»، وقال بوريل الذي شهر سيف العقوبات على معرقلي تشكيل الحكومة وتنفيذ الإصلاحات الإقتصادية والسياسية لبلد بلغ التداعي فيه بفعل ساسته وضعاً غير مسبوق، «إن المساعدات الخارجية لن تتدفق بدون حكومة تعمل مع صندوق النقد الدولي» وهو الصندوق الذي لزعيم حزب الله تحفظات معلنة على كيفية التعامل معه.
بعيداً عن زيارة بوريل وتقريره لمجلس الاتحاد الاوروبي، وعن الأغبرة السياسية التي أثارها كلام باسيل عبر إطلاقه الرصاص السياسي على كل خصومه دفعة واحدة، فإن إيكاله ضمانة حقوق المسيحيين لحسن نصر الله شكّل الوقود المطلوب للإنتخابات النيابية والرئاسية المقبلة بشهادة الردود والردود المضادة بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. وقد بلغت الردود ذروتها بإدخال عنصر الذمية السياسية الحزبلّاهية والإسرائيلية في ميدان الإنشطار الأفقي والعامودي الذي يستعيد مناخات حروب الإلغاء والتحرير.
بات واضحاً أن باسيل وإضافة لمحاولته إمتطاء شهوة النديّة مع نصر الله، أراد من خلال إغوائه نصر الله ومبايعته مرشدا للجمهورية، حشره في مفاضلة محرجة بين تحالفه مع نبيه بري وبين استمرار تفاهم مار مخايل. وهي المفاضلة التي يتوخّى باسيل منها تمزيق عُرى «الثنائي الشيعي» وإضعاف حركة أمل، ومن ثمّ إستقواء باسيل بحزب الله على بقية القوى التي سترفع الرايات البيضاء بمجرد وقوع الطلاق بين طرفي الثنائي الشيعي. ببساطة يتوسّل باسيل الكثير من الديماغوجية والأميّة السياسية، فضلاً عن «الفتنة المتجولة» كما وصفها يوماً سليمان فرنجية، وما هو أقل وأكثر من ذلك بكثير في سبيل تحقيق أهدافه الرئاسيّة.
وبغض النظر عن ردّ نصر الله على استنجاد صديقه باسيل، فأغلب الظنّ أن زعيم حزب الله سوف يكرّر مبادرته الغير مرتجلة بدعمه تفويض نبيه برّي الذي قال خلال رده على بيان ميشال عون «المبادرة مستمرة».
صحيح أن حزب الله الطرف الأقوى لبنانياً، ومن الأطراف القوية في الإقليم نتيجة تبعيته الإيرانية في السلاح الى ضمان تفوقه على بقية القوى والطوائف وصحيح أن حزب الله ورث الإدارة والدور السوري في لبنان، لكن هذه وراثة أمنية عسكرية حقّقت بفعل إحتكاره السلاح ضمان تفوقه على بقية القوى والطوائف العارية من السلاح نسبياً. ربما فات باسيل أن يدرك أن فائض قوّة حزب الله لم تجعله قادراً على لعب دور المرجعية التي تلوذ بها كافة الأطراف.
ولكون حزب الله طرفاً سياسياً فاعلاً بين الأطراف الأخرى وله حلفاؤه وخصومه، فحسن نصر الله غير قادر على ارتداء بدلة غازي كنعان أو لعب دور رستم غزالة كما يريد باسيل. ولنفترض أن حزب الله قرّر تقمّص الدور والأسلوب السوري في معالجة المشكلات اللبنانية، فماذا سيفعل؟ هل يرسل دورية لإعتقال نبيه برّي، أم يهدّد سعد الحريري بسبعة أيار جديد، أم يطلق صاروخ سليماني على سمير جعجع، أم يسلّح الأرسلانيين ضد الجنبلاطيين لأنهما عالجا مشكلة قبرشمون وتداعياتها المتناسلة من تغوّل باسيلي؟
أثناء تشكيل حكومة تمّام سلام التي استطالت بضعة أشهر بسبب مشكلات واجهتها، بينها توزير جبران باسيل الساقط في الإنتخابات النيابية، أطلق النائب ميشال عون مأثرته الشهيرة «لعيون صهر الجنرال ما تتشكل الحكومة»، وفعلاً لم تتشكل الحكومة إلّا بعد توزير باسيل. مشكلة صهر الرئيس ميشال عون، توهمّه أنه صهر الجمهورية، ويريد اليوم أن يصبح صهر مرشد الجمهورية عبر تجديد وتطوير عقد زواج المصلحة المسمّى «تفاهم مار مخايل».
يقولون، في السياسة، والحب، والحرب، كل شيء مباح. ومن هذا المُباح استولد باسيل «الإباحية السياسية» وهي أعلى درجة من الإنتهازية السياسية التي أراد باسيل من خلالها تدفيع نصر الله ثمن العقوبات التي استهدفته بسبب علاقته بالحزب، فيما منطوق العقوبات يقول أنها استهدفته لكونه فاسداً وفق مندرجات قانون ماغنيتسكي وليس بسبب علاقته بالحزب، كما الحال مع وزير تيار المرده يوسف فنيانوس، ووزيري حركة أمل علي حسن خليل وغازي زعيتر. لكن انتخاب ابراهيم رئيسي المُعاقب أميركياً رئيساً لإيران، شكل محفّزاً لباسيل لاعتبار العقوبات عليه لا تحول بينه وبين الكرسي الرئاسي.
وكما نظم باسيل من وحي هذه الإباحية معادلته التي تقول أن قبوله بسعد الحريري رئيساً للحكومة، يقابله قبول الحريري به رئيساً للجمهورية. ومن وحي الإباحية إياها، نظم باسيل غوايته لنصر الله بصفته مرشد الجمهورية بتسهيل مهمة الحريري في تشكيل الحكومة، مقابل إلتزام نصر الله وتعهده بباسيل رئيساً لها.
واقع الحال أنّ حزب الله غير قادر على مجاراة باسيل في تحجيم نبيه برّي، ونتف ريش سعد الحريري، وتقليم طموحات سليمان فرنجية، وتبنّيه الحرب على سمير جعجع بسبب «الذميّة الإسرائيلية»، وكسر «قرعة المتة» لوليد جنبلاط، وكل هذا كان يفعل أكثر منه المرحومون غازي كنعان ورستم غزالي وجامع جامع بمكالمة هاتفية. ربما الحاجة الى الهاتف السوري فرضت قيام وفد قيادي من أحزاب 8 آذار بلقاء وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في دمشق وبحثوا معه التعاون المشترك وتفعيل الاتفاقيات الشهيرة المبرمة بين البلدين.
لكن، لماذا تقصّد جبران باسيل إحراج حليفه حزب الله وإظهار عجزه وفشله لبنانياً، بعد «نجاحه» في رسم المعادلات الكبرى إقليمياً، أم أن المسألة عبارة عن تخادم مضبوط الإيقاع بين أطراف منظومة الفساد والمال والسلطة والسلاح وتغطيتهم إنهيار لبنان بعد إفقار اللبنانيين، بغربال التناحر الطائفي والسياسي، حتى ولو كان الطريق الى جهنّم، يمرّ بما بعد بعد الصوملة.