العميد د. أمين محمد حطيط*-البناء
انشغلت دوائر السياسة والصحافة والإعلام الأجنبية، إقليمية ودولية، بالانتخابات الرئاسية الإيرانية قبل إجرائها مواكبة لها وبعد تنفيذها تعليقاً وتحليلاً لنتائجها، انشغالاً يعبّر عن أهمية الدور والموقع الذي باتت إيران تشغله في النظام الإقليمي كما والتأثير الذي تمارسه في انفتاحها على النظام العالمي قيد التشكل.
فإيران بعد الثورة تمكّنت من صياغة واعتماد نظام حكم سيادي حقيقي وسياسة استقلالية فعلية قدّمت فيهما النموذج التطبيقي الصادق عن الاستقلال الحقيقي وممارسة القرار السيادي بنفسها واحترام إرادة الآخر في التحرّر ومدّه بالدعم الممكن وبالقدر المتاح ليكون قادراً على حماية حقوقه مستقلاً عن هيمنة وتبعية للمنظومة الاستعمارية المهيمنة على قرار العالم.
ومن المفيد أن نسجل أن إيران نجحت في تحصين نفسها ببناء دولة المؤسسات وإقامة اقتصاد الاكتفاء الذاتي إلى حدّ بعيد وامتلاك القوة العسكرية ذات القدرات المرتكزة على مصادر محلية ذاتية بالقدر الكافي، كلّ ذلك مكّن إيران من أن تتخذ لنفسها الموقع والقرار المستقلّ وتصوغ التحالفات الندية وتنظم المحاور والمجموعات الاستراتيجيّة التي تحاكي أهدافها السياسية والاستراتيجية العليا وما يحفظ لها موقعها الجيوسياسي وفقاً لما اعتمدت من منظومات أسس وقواعد ومبادئ وعقائد.
ولأنّ إيران كذلك فقد استقطبت الاهتمام الشديد من دول المحيط والإقليم، كما ومن كلّ الدول التي تتطلع للعب دور إقليمي أو دولي. ورغم أنّ إيران كما ذكرنا هي دولة نظم ومؤسسات، وأن المؤسسات مصاغة بشكل متقن ومحكم يحدد صلاحياتها ويضبط مساراتها ويجعل السلطة فيها تراقب السلطة وتمنع جمحها أو انحرافها وفقاً لقواعد وآليات «الديمقراطية الرشيدة»، رغم كلّ ذلك فإنّ الخارج أبدى اهتماماً واضحاً بالانتخابات الرئاسية الإيرانية اهتمام سجل على صعيد، معسكر الأعداء وعلى رأسهم أميركا و»إسرائيل»، ومعسكر الأصدقاء الذين فيهم الإقليمي العربي كسورية والدولي كالصين وروسيا وفنزويلا، حتى وبشيء من الاهتمام من معسكر الحياد أو عدم التدخل والاهتمام المتشكل من الدول التي ليست لها مصالح متقاطعة أو متنافرة مع إيران ولا يتطلب وضعها مساعدة إيرانية.
لقد أظهر معسكر الأعداء استماتة خلال الانتخابات الإيرانية من أجل تشكيل مشهد يمكنه من القول بأنّ الشعب في إيران منفكّ عن نظام الحكم ومؤسسات الثورة، لذلك سخرت أكثر من 250 محطة تلفزيونيّة خارجية للبث باللغة الفارسية لحمل الناس على مقاطعة الانتخابات ودفعها إلى الشارع رفضاً للنتائج واعتبار ما نطقت به صناديق الاقتراع مجافياً للإرادة الشعبية وأنه لا يعبّر عن اختيار شعبي حر، لكن إجراءات الانتخابات وسلاسة تنفيذها والنسبة المعقولة للمشاركين في الاقتراع (48.8%) أجهضت هذا المسعى، كما أن مسارعة المرشحين الثلاثة الخاسرين إلى تهنئة الفائز بنسبة 62% من أصوات المقترعين قطع الطريق على أي حركة فوضوية في الشارع تذكر بما افتعل في العام 2009 في إطار الحرب الناعمة التي شنتها أميركا على إيران بعد الانتخابات الرئاسية.
أما معسكر الأصدقاء فإنه ورغم طمأنينته إلى استمرار العلاقة والتحالفات الاستراتيجية مع طهران فقد كان يعنيه من الانتخابات أمران الأول التفاف شعبي حول الثورة ونظامها وخياراتها الاستراتيجية والتي فيها تلك التحالفات الاستراتيجية معه، والثاني وصول مَن يؤمن بعمق بتلك الأهداف ويعمل لتحقيقها ضمن مفاهيم تحقيق موجب غاية وليس فقط القيام بموجب بذل عناية. ففي التمييز بين السلوكين أهمية تحتسب لدى الأصدقاء. ومن أجل ذلك كانت السعادة بالغة لدى محور المقاومة وحلفاء إيران بنتائج الانتخابات التي أظهرت فوز السيد إبراهيم رئيسي ابن الثورة والمعتنق مبادئها منذ كان شاباً يافعاً، والممارس أو المضطلع بمهام رئيسية وحساسة خلال السنوات الـ 42 من عمر الثورة حيث شارك في الدفاع المقدس مقاتلاً، ومارس القضاء دفاعاً عن الثورة، وعمل في العتبة الرضوية في نطاق الاستثمار والتنمية الاجتماعية وقدم نموذج القيادة العاملة من أجل المجتمع والناس، قام بكلّ ذلك ملتزماً بشكل كلي مبادئ الثورة عاملاً بتشدّد بتوجيهات مرشدها.
نعم أسفرت الانتخابات الرئاسية الإيرانية عن وصول شخص يطمئن الصديق ويشكّل للعدو كابوساً تحدّثت عنه دوائره الإعلامية والاستخبارية وأسهبت مراكز الدراسات في تحليل متعلقاته وسياساته، رغم أننا قلنا بأنّ إيران دولة مؤسسات تستعصي على الحالات الانقلابية ومع ذلك فقد نال السيد إبراهيم رئيسي بعد فوزه قدراً كبيراً من اهتمامات الخارج وتحليلاته وتوقعاته، والسبب برأينا عائد إلى ظروف إقليمية ودولية تعني إيران فضلاً عن ظروف إيرانية ذاتية تحكم الواقع فيها في هذه المرحلة ونسجل في ذلك ما يلي:
1 ـ الوضع الإيراني الداخلي. رغم أنّ نسبة الاقتراع تعتبر معقولة جداً في ظلّ الظروف الصحية (كورونا) والاقتصادية (الحصار والإرهاب الاقتصادي الأميركي) والسياسية (عدم وجود المرشح المنافس الذي يستقطب الناخبين المناوئين للمرشح المرجّح فوزه) فإنّ الانتخابات أشرت على مهمة لا بدّ من أن يضطلع بها الرئيس المنتخب تتمثل في العمل على رفع مستويات الوحدة الوطنية وتثمير نتائج الانتخابات باعتبارها استفتاء ناجحاً على نظام الثورة وسياستها واستراتيجيتها. وهذه المهمة كما نعتقد ستكون من أولى مهام الرئيس، وقد عبّر عن ذلك بالقول إنه رئيس لكلّ إيران ومسؤول عن خدمة الشعب الإيراني كله من انتخب ومن امتنع ومن أيّده أو من عارضه.
2 ـ الوضع الإيراني الاقتصادي. وسيشكل هذا الأمر أحد التحديات الكبرى للرئيس المنتخب في ظلّ الحصار الأميركي الغربي، ولذلك سيجد الرئيس نفسه ملزماً بمراعاة التوازن بين التمسك بالمبادئ الثورية التي تحكم العلاقة مع الخارج عامة والغرب خاصة وبين رفاهية الشعب وتأمين احتياجاته وفي هذا ينتظر أن يكون الرئيس رئيسي أكثر اندفاعاً في بناء العلاقات مع الشرق وبلورة السوق الإقليمي أو الشرقي الذي يتفلت من الضغط الغربي وسيشكل هذا خاصة إذا استتبع برفع الحصار العربي قفزة نوعية ستسجل للرئيس.
3 ـ على الصعيد الإقليمي. سينطلق الرئيس رئيسي من واقع انتصار محور المقاومة في الحرب الكونية التي استهدفته عبر سورية وسيفتتح مرحلة استثمار الانتصار هذا في كل الميادين التي لإيران قدرة على العمل والمساعدة وسيكون ذلك في مصلحة الدول والكيانات المقاومة المتحالفة مع إيران وعليه من المرتقب أن تشهد الأزمات التي تتصل بتلك الكيانات نوعاً من التشدّد في التداول وصولاً إلى الحلول لصالح حلفاء إيران خاصة في كل من سورية واليمن والعراق ولبنان.
4 ـ على صعيد الملف النووي وعودة أميركا إلى الاتفاق فيه. صحيح أنّ هناك مهلة تصل إلى 45 يوماً قبل أن يتولى الرئيس رئيسي السلطة في 4 آب/ أغسطس المقبل، وصحيح أن السياسة الخارجية عامة وما يتصل بالملف النووي خاصة تصنع داخل مجلس الأمن القومي بإشراف مباشر من المرشد وتنفذها الحكومة ووزارة الخارجية، لكن يبقى للمنفذ دوره في الأسلوب والآلية التنفيذية. لذلك نعتقد أنّ المتفاوضين في فيينا سيأخذون بالاعتبار وجود الرئيس الإيراني المقبل، ولذلك قد نشهد رغبة أميركية بتسريع التفاوض وتوقيع اتفاق العودة إلى الاتفاقية النووية قبل آب المقبل، ولكن قد نجد موقفاً إيرانياً ومن الآن أكثر تشدّداً وأقلّ مرونة مما كان عليه قبل الانتخاب خاصة أنّ إيران أصلاً لم تعد تبدي اليوم الحرص ذاته الذي كانت عليه قبل سنتين على عودة أميركا للاتفاق. ولهذا نقول إنّ المرجح إتمام العودة إلى الاتفاق بشروط أفضل لإيران، أما إذا تعثر الأمر؛ وهذا ما نستبعده فإنّ إيران ستكون أشدّ صلابة في الدفاع عسكرياً عن نفسها وعن محور المقاومة وترسيخ معادلة الردع الاستراتيجي الفاعل ما يقودنا إلى استبعاد المواجهات العسكرية أصلاً وستذهب استعراضات «إسرائيل» وتهديداتها بضرب المنشآت النووية الإيرانية سدى وتضيع من غير إثر.
5 ـ على الصعيد الدولي العام: سيتجذر الموقع الإيراني أكثر في النظام الإقليمي أولاً والنظام العالمي قيد التشكل من خلال حرص إيران على ممارسة الدور الناشط في المجموعة الاستراتيجية المناهضة للتدخل الأجنبي والاستعماري. ولكن هنا ينبغي الالتفات إلى إمكان تغيير طبيعة استراتيجية المواجهة المعتمدة في هذا النطاق وهي استراتيجية قد تكون ذات طابع هجومي أكثر منه دفاعي وتكون إيران بعد 42 عاماً من عمر الثورة اتجهت لاعتماد النفس الهجومي الواضح، سواء أكان هجوماً في معرض المبادرة أم هجوماً في معرض الدفاع، وقد يسجل للرئيس إبراهيم رئيسي افتتاح هذه المرحلة في المواجهة.