“أحلى من برلين”… كعذوبة سهرة على شرفة في حي عربي ما

جهاد بزّي – كاتب لبناني

مش رح أكتب الإلياذة ولا حتى دون كيشوت/ ليش تأقعد بالأحلام/ لازم أعرف محلي/ شو بدها تعمل هل غُنّاي/ قدام السكّر مِحلي؟“.

بمزاج عالٍ مشغول ألبوم ”أحلى من برلين“، كأنه، أكثر، سهرة صيفية على بيرة محليّة، شديدة المحليّة.

صاحبا الـ 11 أغنية هما فرج سليمان ومجد كيال. فرج عازف بيانو فلسطيني من حيفا، ومؤلف موسيقي، ومؤدي معظم أغنيات ألبوم ”أحلى من برلين“. صوته الخاص في الجاز واضح ونضر، ويكاد يكون يشبه أل ”وأخيراً“ لهواة النوع من العرب ممن يبحثون عن جاز سأخاطر بوصفه بالشرقي، وإن كان ليس كذلك تحديداً. موسيقى فرج هي النتاج العفوي لموسيقي لديه مخزوننا الجماعي من الموسيقى العربية، وقد اختلطت بالجاز، من دون إقحام الثاني بالأولى عنوة أو العكس. أعني، فرج لا يستحضر روح زكريا أحمد مثلاً ليفرضها بجملة موسيقية غربية، فتخرج ركيكة وثقيلة كالمستشرقين حين يحاولون أن يحكوا (أو يغنوا) بالعربية. هو يلحن ويعزف كما تعلم وراكم. الصدفة السعيدة تقع هنا: في أن إنتاجه حلو. جملته الموسيقية خفيفة على القلب، مرحة كما يفترض بالجاز أن يكون، لكنها قبل ذلك جملة أصلية. لا تسترجع فيها أحداً، عربياً كان أم أجنبياً، حتى الفيل الذي ربما بدأت تتشكل ملامحه في الغرفة وفي ذهن القارئ، أقصد زياد الرحباني.

تنتبه أيضاً، وربما أنت المقصر في متابعة التجارب الحديثة الشابة، أنك لم تسمع من قبل أغنية مثل هذه، محلية وعصرية ويومية بلهجة فلسطينية صرفة. وهي أغنية في صلب السياسة، مع أنها لا تدعيها. ليست بياناً كما أنها ليست مجردات. هي حديث يومي، ومجد كيال يجيد الثرثرة في كلامه الذي لا يشبه شيئاً من الشعر، ولأنه كذلك، تحديداً، فهو شعرٌ.

هناك الكثير من المشترك بينهما، فرج وزياد. البيانو والجاز والشغف بالموسيقى والتجريب والصوت الذي لا يصلح للغناء، ومع ذلك تعجز عن الابتسام له وهو يغني. تبتسم للسخرية الكامنة فيه، لذكائه.  هما متشابهان جداً في الاختلاف عن السائد، لكن كلٌّ في زمنه، وعصره، وموسيقاه وبلده ولغته المحلية السياسية والاجتماعية. يتقاطعان في هذه العناوين العامة، الموهبة والشغف، غير أن فرج سليمان ليس زياد الرحباني الفلسطيني مثلاً. إنه يؤسس لحالته وعلى طريقته، وفي هذا ما يبشّر بفرادة وجودة عاليتين، ونادرتين.

جودة جليّة في حفلات في مهرجانات جاز عالمية، وفي ألبوم ”فهيم“ اللاحق ل ”أحلى من برلين“ يفترض أنه للأطفال عنوانه ”فهيم“، لكن يمكن بسهولة الأدمان على الاستماع إليه، بغض النظر عن السن. وهو أيضاً نتيجة للتعاون بين المؤلف الموسيقي، ومجد كيّال الشريك الأساسي في ”أحلى من برلين“. الكاتب الفلسطيني الشاب (31 سنة) كتب كل كلمات  أغاني الألبوم. نجمة العمل، عن جدارة، هي ”شوي بتوجع برلين“ (أو ”في أسئلة براسي“). ما يكتبه مجد لا شبيه له في الأغاني العربية. يبدو كمن يكتب بلا حساب لأحد، لا للملحن، ولا للمستمع ولا حتى للشعر نفسه. لا يمتنع عن الاسترسال في الحكي، في الاتصال الذي يجريه من برلين بحبيبته (السابقة). يقول لها: ”شوي بتوجع برلين/ حلوة وملانة ناس/ بس بشتاق لإم صبري، وبشتاق لك إنتي بالأساس“. إم صبري ستكون أول اسم نتعرف عليه في الحارة.. ثم تكر السبحة: حمود لي كان يتمرن حديد، محبوس، سارق فرع البريد. بعدو عاطف بالعمارة.. وبعدو كل ليلة البوليس بتْمنيَك عولاد العرب..

هكذا تمضي الأغنية، بأسماء أشخاصها المجهولين وقصصهم، بلهجة إلى هذه الدرجة ليست بيضاء، بل هي على الأرجح واحدة من اللهجات الفلسطينية التي لن يستطيع غير الفلسطيني التفريق بينها. يغرق مجد في تفاصيل تفاصيل حارة مجهولة، لتنتبه

أنك ترى فجأة الحي الذي عشت فيه بالضاحية الجنوبية، أو، لنقل، ترى ذاكرتك الخاصة، في الجامعة أو بيروت أو في صيد أو في أي مكان آخر من أماكنك أنت.

تنتبه أيضاً، وربما أنت المقصر في متابعة التجارب الحديثة الشابة، أنك لم تسمع من قبل أغنية مثل هذه، محلية وعصرية ويومية بلهجة فلسطينية صرفة. وهي أغنية في صلب السياسة، مع أنها لا تدعيها. ليست بياناً كما أنها ليست مجردات. هي حديث يومي، ومجد كيال يجيد الثرثرة في كلامه الذي لا يشبه شيئاً من الشعر، ولأنه كذلك، تحديداً، فهو شعرٌ. ومع أنك لن تعرف ما هي ”الطوَش مع الروس“ أو ماذا تعني معلومة مثل أن أشرف حنّا ”بعدو بُوخِد قهوة عالسريع“، لكنك ستتماهى مع أماكن مجد، وناسه الكثر، بصوت فرج سليمان، وجهده في تلحين وغناء مطوّلات كلامية تبدو عصية على الغناء، ومع ذلك ينجح، ويظل يعطي التوزيع الموسيقي حقه التام، بين رباعي جاز مكتمل: بيانو وترامبيت وكونتراباص ودرامز.

الألبوم برمته جديد، فن مختلف لا يشبه شيئاً مما سبقه أو عاصره. مخاطرة نجح فيها الشابان. طبقة أعلى من السائد في السخرية والتهكم كما في الشجون والشؤون اليومية، لشاب لا يجد شقة لائقة بحبيبته بسبب ما يصيب المدينة من توحش، أو يسائل حبيبة اختارت زواجاً تقليدياً ويجادلها، أو ينكسر إذ يعترف أن ”هادا لي عندي يمكن مش أكتر من هيك“، وهو أنه لم يلف مدن العالم ولا يفهم في السينما والفن التشكيلي، ولا يجيد الطبخ الرومانسي، ”وما عندي نظرة معماري/ ما لفيت مدن العالم/ كنت بالبيت ألعب أتاري“.

هذا ما عندهما، فرج ومجد: مش رح أكتب الإلياذة ولا حتى دون كيشوت/ ليش تأقعد بالأحلام/ لازم أعرف محلي/ شو بدها تعمل هل غُنّاي/ قدام السكّر مِحلي؟“

وهو تواضع الموهوبين. الألبوم الذي صدر بداية العام الحالي لاقى مديحاً شاملاً من كل الذين كتبوا عنه. وفي حفل إطلاقه قبل أيام، أكمل الجمهور الأغنية النجمة عن المغني، مشتاقاً بدوره لأم صبري. ومع أنها النجمة التي حصدت أكثر من ، لكن الألبوم ليس لها وحدها، فهو ملآن بما لا يمل من الاستماع إليه، مرّة بعد مرّة. هل هذا معيار كافٍ للنجاح، ولأن تقف “غُنّاي” مثل التي يقدمها مجد وفرج أمام ”سكر محلّي“، من دون تقديم أي تنازل؟ يمكنني الإدعاء بأن نعم، يمكن لفن مختلف، تدور أحداثه في حارة مجهولة في حيفا، أن يصل بعيداً، ويصل كثيراً، ويظل مرحاً، كسهرة بيرة في الصيف، على شرفة في الحي الذي كنتَ تسكن فيه يوماً ما.

Exit mobile version