“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
الثابت في السياسة، أن مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه برّي المرتكزة إلى مبدأ “الثلاث ثمانات” سقطت أو في طور المرحلة الأخيرة من السقوط. المتحرّك يبقى أن الرغبة في إنتاج المبادرات لا زالت متوفرة: النائب جبران باسيل “استعان” بصديق وهو السيّد حسن نصرالله، السيّد حسن يحتكم إلى صديقه الرئيس برّي، جوزيب بوريل لجأ إلى الإتحاد الأوروبي، فيما الرئيس ميشال عون يتسلّح بالقدر!
عملياً، المعنيون الرئيسيون أو الشركاء الأصيلون في عملية تأليف الحكومة لا تظهر لديهم الرغبة أو الميل الكامل والإيجابي صوب الشروع الحقيقي بعملية التأليف، وللكلّ أسبابه. يتبدّى ذلك من قرار رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري العزوف عن نقاشات التأليف، وتفضيل “الطيران” الليلي إلى أبو ظبي على أن يكون ضيفاً “من أهل البيت” في قصر بعبدا، وأيضاً من خلال أسلوب تناول النائب جبران باسيل للملف. فهو ينتقل من تسهيل مبادرة إلى إسقاطها وهكذا دواليك، متقاطعاً على ما يبدو في المصلحة من وراء عدم تأليف حكومة (وفق الشكل الذي رست عليه التفاهمات) بينه وبين الرئيس الحريري، وبالإشتراك فيما بينهما!
وقبل 10 أشهر تقريباً من موعد افتتاح صناديق الإقتراع، فقدت الرغبة في تأليف حكومة “مهمة” ملقاً على عاتقها إجراء إصلاحات وتحسينات على المستوى المالي والإقتصادي والشروع بعملية إنقاذ كاملة العناصر تفرض ولشدّة الإنهيار اللجوء إلى خيارات وقرارات “قاسية وغير شعبية”، فكيف لمرشحين مفترضين للإنتخابات أن ينكبّوا على تأليف حكومة لها أن تُفقدهم شعبيةً يطمحون إلى رفعها عبر افتعال الإشتباكات الداخلية؟
في الواقع، يعود بنا الجو الحكومي إلى البدايات: هل طرح الرئيس سعد الحريري نفسه لتشكيل الحكومة أو لعدم التشكيل؟ إنطلاقاً من هذا السؤال، بدأ التنقيب عن الأهداف الكامنة وراء الإستمرار في “التسلّل” خلف المبادرات: هل الحريري يلتزم شخصياً مشروع عرقلة العهد لمقايضة ذلك بأثمان خارج الحدود؟ إذا كان نعم، فما الداعي للعهد أو رجالاته أن يشاركه في توفير مكاسبه؟
للحقيقة، ثمة من بات يعتقد، سواء على ضفة العهد أو بيت الوسط، أن تأليف الحكومة حالياً أضحى مضيعة للوقت لكوننا أصبحنا على مشارف الإنتخابات النيابية حيث تصبح قدرات الحكومة محدودة و”جلاّبة للمشاكل” وعند هذه النقطة، كان الرهان على التأليف خلال الفترة الماضية، أي الـ8 أشهر الأخيرة التي انصرمت وقد كانت ظروف الأمس مختلفة عن اليوم.
في المقابل، ينمو تفكير على نقيض ذلك تماماً. يُدرك أن لا رغبة لدى الحريري في التأليف. هذا الفريق يدرك في سرّه إستحالة حدوث ذلك في ما تبقى من عهد ميشال عون والتجارب خير دليل، لذلك يُراهن على إظهار صورته على غير عرقلة، والإكتفاء بتظهير صورة الحريري “كمعرقل” لجني أسباب ونتائج. في الطريق إلى ذلك، لا مانع من استنهاض مبادرات أو الدعوة إلى مبادرات ويصبح الخوض في مجال المناورات أمراً مفيداً، حتى افول زمن الإنتخابات.
ومبادرة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الأخيرة والتي أطلقها خلال مؤتمره الصحافي أمس تصبّ في هذا الإتجاه. وكّل باسيل “صديقه” السيد حسن نصرالله لقيادة مسعىً جديداً لتأليف حكومة. قال باسيل أنه يسعى خلف “حكم وأمين على الموضوع” وعلى شخص “يثق به ويأتمنه” وشخص يعرف “أننا مستهدفون” وعلى شخص “نعلم أنه لا يخذل الحق” ملتزماً ـ أي باسيل – وبوكالته عن من “يستلم أمرهم”، أن يقبل بما يقبل به “السيد” لنفسه، فكيف سيكون ردّ السيّد، وهل سيتولى المهمة المُستعان به لأجلها؟
في الواقع، ما زال من المبكر تقدير موقف “حزب الله”، وعلى الأغلب، فإن اقتراحاً من هذا النوع سيخضع للدرس والتنقيب، عملاً بمبدأ التدقيق واستشراف النتائج ومعاينة الشروط كأساس يتبعه الحزب “غير المتسرّع” باتخاذ القرارات والأحكام، ولغاية المساء كان الحزب متمنّعاً عن التعليق عبر الإعلام، إنطلاقاً من قاعدة ثابتة لديه أن المسائل المطروحة بينه وبين “التيار” تُبحث في الغرف المغلقة، لكن في التحليل ومن ثم المعلومات، أن الحزب، وإن كان الآخرون يعتقدون أن مبادرة رئيس مجلس النواب قد “سقطت”، لكنه ما زال متموضعاً في خانتها عملاً بآخر إعلان صدر عن رئيس المجلس حول اعتباره بأن المبادرة مستمرّة.
وثمة اعتقاد راسخ بعيد كلام باسيل، من احتمال أن يُقدم الحزب على التدخل بشكل أوسع في مبادرة بري، من دون أن يعني ذلك الإستحواذ عليها أو تسييرها من خارج ما هو محدّد لها أو من حدّد لها، وهذا له تفسيره من خلال ممارسة الحزب مزيداً من محاولات تقريب وجهات النظر و “إصلاح ذات البَين” الذي وقع بين الحلفاء غداة “قصف مدفعية البيانات”، وإن كان الإحتمال الأكبر ألا يلتزم الحزب أي مبادرة مباشرة لألف سبب وسبب، مع التشديد على حصر حراكه باستراتيجية “الثنائي الشيعي”: نمنع الحريري من الإعتذار مقابل إدارة التفاوض مع باسيل.
على المقلب الآخر، ثمة استغراب لطرح باسيل من حيث الأهداف والتوقيت نظراً لأن ما يتمخّض عنه، بنظر البعض، يتجاوز “طلب وساطة” ويستبطن محاولةً “ذات أهداف مريبة” لإقحام حليفه في عمق المشهد ونقل المواجهة الواقعة بين الثنائي الماروني ـ السُني إلى “الثنائي الشيعي”، او تحويل الحزب إلى شخصية معنوية تفاوض عن التيار أمام حركة أمل وهذا قد ينمّي حساسيات لشدّة نزاع “الحركة” مع العونيين ما يغذّي الإعتقاد بأن باسيل يحاول الإيقاع بين الثُنائي كما حاول سابقاً نقل مواجهة التأليف لتغدو نزاعاً بين “الثنائي الشيعي” وبيت الوسط، حين اقترح توكيل هذا الثنائي طرح أسماء لمواقع حكومية مختلف عليها مع الحريري.
الأمر الثاني محطّ الإستغراب، لأن باسيل الذي يتولى محيطه ومنذ فترة “التزامات” من قبيل استهداف “حزب الله كلامياً” والتشكيك به وفي أدواره الداخلية، يأتي الآن طلباً لوساطة أو تدخّل الحزب في “الإشتباك” عبر مبادرة! متجاهلاً أن الحزب بذل ما يفوق طاقته في مجال الوساطة. وحين طرح الحزب وساطةً ووكّل صديقاً (الرئيس برّي) تعامل معه باسيل منذ البداية من قاعدة “التشكيك بحضوره و بأدواره” ولو أن هذا “الصديق” أصلاً ساهم بدوره في أن يكون خصماً وأتاح نمو براعم التشكيك من حوله بحكم علاقته “الملتبسة” بالرئيس المكلّف، حتى غدا قائماً عليه سياسياً ويقترح عليه ما يشاء.
وإلى أن ينطق الحزب بما يُفترض أن ينطق به، يبقى أن باسيل، وإن حاول خلال الخطاب الأخير تعديل سلوكه، ينشد تصحيح مسار العلاقة “إعلامياً” مع الحزب عبر بعث برسائل إيجابية ناحيته بعد موجة سخط عارمة أحدثها مسؤولو “التيار”.