حسين أيوب
في الشكل، بدا رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل كأنه يفتح الأبواب بإستعانته بالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بوصفه “صديقا”، وصولاً للقول له “أقبل بما تقبل به أنت لنفسك. هذا آخر كلام لي بالحكومة”، لكن أبعد من الشكل، ماذا يمكن أن يحتمل هذا الكلام في طياته؟ أولاً، إذا كان باسيل يخاطب نصرالله بنية حسنة وإرادة حل، لا بد وأن يرد “السيد” عليه بتحية مماثلة على ثقته العالية والغالية بشخصه وبما يُمثّل.. والتحية الأكبر لإستعداده لتقديم تنازلات لمصلحة البلد، لكن “ما هكذا تُورد الإبل يا جبران”، لأن الإخراج سيء، لا بل سيء للغاية، لماذا؟ لأنه يُصعّب الموقف وبالتالي الحلول، ذلك أن مقاربة حزب الله مختلفة جذرياً عن مقاربة رئيس التيار، بمنطلقاتها وأهدافها. ثانياً، من يَدرُس سنة أولى علوم سياسية في أي جامعة لبنانية أو أجنبية، يدرك أن مقاربة ملف العلاقة بين “الثنائي” (حزب الله وحركة أمل) بالطريقة التي قاربها باسيل، هو نوع من الأمية السياسية، بألطف تعبير ممكن، فكيف إذا كان من يطرحها هو رئيس الجمهورية الفعلي و”الزعيم المسيحي الأول” ورئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية ورئيس أكبر تيار سياسي مسيحي وحليف أساسي لحزب الله وتربطه به وثيقة تفاهم تم إختبارها وتجريبها مئات المرات طوال 15 سنة؟ ثالثاً، منذ ما قبل إستشهاد الرئيس رفيق الحريري، تعرض حزب الله لإغراءات عديدة، محلية وخارجية، بلغت حد تطويب رئاسة المجلس النيابي له، وأحياناً بمباركة من القيادة السورية. هذا العرض قدمه رفيق الحريري ومن بعده سعد الحريري إلى نصرالله، وكان جواب الأخير حاسماً: ما بيننا وبين حركة أمل هو أكبر وأعمق مما يتصوره كثيرون. رفض حزب الله العروض كلها، معتبراً أن خطه الأحمر الأول والأخير، على صعيد التحالفات السياسية هو “البيت الشيعي”. هذا هو البحر الذي يسبح فيه الحزب ويتنفس من خلاله، ولذلك، أي محاولة للفصل بين هذا وذاك هي من “المحرمات”، وبـ”مباركة” من أعلى المراجع الدينية. راكم الطرفان في منتصف الثمانينيات صفحات سوداء وسنوات من الدم كانت ممراً إلزامياً لتجربة سياسية طوال العقود الثلاثة الأخيرة جعلت إنفكاكهما هدفاً لمحاولات دولية، إقتضت صرف أموال وتقديم إغراءات.. والنتيجة صفرية حتى الآن. صحيح أنه في مناسبات عديدة، تبرز تباينات سياسية جدية كما حصل في لحظة إنتخاب ميشال عون. أيضاً، يمكن أن ينبري، من داخل “الثنائي” أو من خارجه من يهوى تظهير الخلاف في “السوشيل ميديا” فيخرج الإثنان بغلة وافرة (شتائم وتحريض وإتهامات إلخ..)، ولكن إرادة قيادة الجانبين واحدة في منع المس بأصل العلاقة التي لا يحكمها نص أو تفاهم أو أي ديباجة سياسية أو فكرية. هذه العلاقة سواء أكان البعض معها أو ضدها، تبعاً لحسابات منظومة المصالح والزبائنية السياسية ومن يستفيد أكثر من الآخر ومن هو “متورط” أكثر من الآخر، ومن “يتنازل” للآخر ومن يتفهم الآخر ومن ومن ومن إلخ.. إلا أن الحقيقة النسبية أن هذه العلاقة غير قابلة للكسر ولا يتقدم عليها أي تفاهم أو تحالف آخر.. إلى حد أن الإيرانيين صاروا يشتهون اليوم لشيعة العراق أن “يقلّدوا” شيعة لبنان بوحدة بيتهم.. ولو أن هذا الأمر من سابع المستحيلات بحسابات أهل بغداد وهم أدرى بشعاب قضاياهم وإنحيازاتهم وأهدافهم. إقتضى الشرح ولو سريعاً، قبل الإنتقال إلى النقطة التالية. رابعاً، يُدرك “الثنائي” أن ما ينسحب على شراكته المتعددة الأبعاد، هو الثابت وما عداه يبقى متحركاً. يسري ذلك على “التحالف الرباعي” ثم “تفاهم مار مخايل” وأي تفاهم يمكن أن يُبرمه أيٌ من الطرفين. لا ينفي ذلك وجود تمايزات، كأن يقترب نبيه بري من وليد جنبلاط وسعد الحريري إلى الحد الذي يصبح فيه الثلاثة “يس ثلاثة بواحد”، أو أن يقترب حزب الله من التيار الوطني الحر إلى حد تعطيل إنتخابات رئاسية تسهيلاً لوصول “الجنرال” إلى سدة الرئاسة، لكن في اللحظات المصيرية، “ممنوع المزح”، برغم وجود أصوات حزبية أو حركية تدعو أحياناً إلى “خلع تلك الشراكة”! خامساً، في حالة “الثنائي”، يُعطي حزب الله أكثر مما يأخذ. هذا الأمر يسري على الوزارة والنيابة والإدارة وكل شيء. “القوي” في طائفته “بيدير بالو على خيو”. كان حزب الله يأمل بإنسحاب هذه المعادلة على حليفه العوني. في أول إختبار جدي، بعد إنتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في خريف العام 2016، أشهر “القوي” مارونياً “الفيتو” على حلفائه المسيحيين وأولهم سليمان فرنجية في أولى حكومات العهد العوني. هذا المنطق الإلغائي (بشراكة كاملة مع القوات اللبنانية عبّر عنها تفاهم معراب) ما زال ساري المفعول منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا. الدليل أن التوصيف الذي أعطاه باسيل للواقع الحكومي إنطلق من معادلة أن من يسميهم هو ورئيس الجمهورية تسري عليهم معادلة الشراكة (حتى لو كان بينهم وزير درزي وليس مسيحياً)، بينما نزع عن وزيري تيار المردة ووزير الحزب السوري القومي المشروعية المسيحية نهائياً. صنّف هؤلاء في خانة الشيعية السياسية بمجرد أن وضعهم في سلة ما يسميها المثالثة، وفي ذلك تكرار لمنطق الإلغاء نفسه. كان الأحرى بباسيل عندما ينادي بخطاب الشراكة الوطنية أن يجعله قاعدة في تعامله مع الواقع المسيحي أولاً، فأن يأتي إلى الإستشارات النيابية على رأس كتلة تضم 19 نائباً مسيحياً (نالوا حوالي المائة ألف صوت تفضيلي)، هل يفوّضه ذلك بمصادرة تمثيل 45 نائباً مسيحياً (مئات آلاف الأصوات التفضيلية)؟ وماذا لو أفتى السيد نصرالله بتأليف حكومة وحدة وطنية تضم التيار الحر والقوات اللبنانية والكتائب والمردة والكتلة الوطنية وغيرهم، كيف سيتصرف باسيل مع هذه الدعوة لكسر كل معادلات التأليف الراهنة؟ سادساً، إذا كان جوهر الخلاف مع الحريري يتصل بالشراكة الوطنية وحقوق المسيحيين (كرامة وعيش)، كان الأحرى بجبران باسيل أن يبتعد عن الخطاب الشعبوي وأن يخاطب جمهوره بشفافية وبلغة النقد الذاتي. خلال فترة الثلاث سنوات الممتدة من تشرين الأول/ أكتوبر 2016 حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2019، هل قدّمت تجربة نصف الولاية الأولى من عمر العهد ـ التسوية ما يشي بتحصيل حقوق المسيحيين وعيشهم؟ ولو كانت إستمرت التسوية أو تجددت، كما يشتهي باسيل، البارحة واليوم وغداً، مع الحريري، هل كان سيضمن للمسيحيين أن ينالوا كل حقوقهم مع “حبة مسك”؟ إقرأ على موقع 180 إخراج إيران من سوريا.. بالوعي والإعمار والنفوذ الروسي! المشكلة مع باسيل أنه عندما يتفق مع الحريري “بياكلوا البلد سوا” وعندما يختلفان “بيحرقوا البلد سوا”، على حد تعبير شخصية قريبة من الإثنين. المسألة بينهما شخصية بحتة ولا تمت بصلة لكل الشعارات الشعبوية المسيحية، بدليل تجربة الثلاث سنوات الأولى من عمر العهد، علماً أن الإثنين لم يقدما حتى الآن تبريراً مقنعاً، سواء لجمهورهما أم للجمهور اللبناني العريض، حول أسباب إتفاقهما أو إختلافهما الحقيقية. سابعاً، ثمة مشكلة بين باسيل والأميركيين زادتها العقوبات الأميركية تأزيماً، وصار على لبنان أن يدفع ثمن فاتورة سياسية دفعها رئيس التيار الوطني الحر. هذه الفاتورة قد يكون ثمنها الأكبر متصل بتفاهم مار مخايل، ولكن حتماً هي تتصل بالدرجة الأولى بطموحات باسيل نفسه: إنها رئاسة الجمهورية. التمسك بالتفاهم مع حزب الله هو محاولة لإعادة إستنساخ تجربة “الوفاء” إياها مع ميشال عون، للوصول إلى رئاسة الجمهورية. الكلفة عالية ولكن الهدف يستحق، وهذا أمر مشروع في السياسة، وربما يشتهي كثيرون أن يقلدوا باسيل، ولكن لو رفع الأميركيون العقوبات، ماذا سيكون مصير الكثير من العناوين التي عدّدها باسيل؟ ولو قال السيد نصرالله الكلمة السحرية التي يرغب باسيل بسماعها “بأنك مرشحنا لرئاسة الجمهورية”، هل كان ليرفض التسوية الحكومية ولو كانت نتائجها صفرية مسيحياً؟ ثامناً، حزب الله مؤسسة. يدرك باسيل ذلك عن ظهر قلب. قد يجد من يُحبه في الحزب ومن لا يُكن الود له. في النهاية، هناك قرار تتخذه المؤسسة الحزبية. عندما أعطى الأمين العام لحزب الله الإشارة بتفويض بري أن يكون وسيطاً، كان ذلك نتاج مناقشات في أعلى الهرم الحزبي. لاحقاً، عندما تابع القياديان في حزب الله حسين الخليل ووفيق صفا المهمة، كانا يتحدثان بلسان السيد نصرالله وليس بلسان أي منهما. وعندما إلتبس الأمر أحياناً وإقتضى توضيحات، حصل تواصل أكثر من مرة بواسطة الهاتف الداخلي بين نصرالله وباسيل، وكانت وجهة حزب الله حاسمة منذ اللحظة الأولى: التمني على رئيس الجمهورية والرئيس المكلف الإسراع بإيجاد حل سريع لموضوع الحكومة لأن عامل الوقت ضد الجميع من دون إستثناء. يقود ذلك للقول إن دعوة باسيل إلى نصرالله لم تكن دعوة حكيمة ولا موفقة سواء إذا كان الهدف منها الإيقاع بينه وبين بري أو إحراج الأخير وإخراجه، بمعنى أنك أنت يا سيد فوّضت بري بمبادرة “لا عناصر لها او على الأقل ما منعرفها ولا مرّة تبلّغناها”، وها نحن نُعيد الطابة إلى ملعبك! أسهل موقف يمكن أن يتخذه حزب الله في هكذا حالة هو القول لباسيل بوجوب التسهيل لأن مصير البلد يتعدى الأشخاص والحسابات الضيقة، فما يقبله نصرالله لنفسه، لا يمكنك أن تقبل أنت به. هو يقبل بأقل من نصف المقاعد الوزارية الشيعية، وعندما تعقدت مسألة الحقائب، وافق حزب الله على أي صيغة تضمن ولادة الحكومة حتى لو إقتضت تنازله عن أي حقيبة أساسية له. تاسعاً، لعل مشكلة جبران باسيل الأساسية اليوم أنه يريد أن يلعب لعبة قديمة في ظروف مختلفة عن لحظة ما قبل الطائف. في تلك اللحظة، كان ميشال عون شاهداً على خسارة الجمهورية الأولى، ويريد جبران باسيل أن يكون شاهداً على خسارة الجمهورية الثانية، لكن من يضمن أن الجمهورية الثالثة لن تولد على حساب حقوق المسيحيين وماذا يمنع أن يدفع المسيحيون ثمنها بالديموغرافيا (إستنساخ 1990) والصيغة والإقتصاد والمال، بعد أن خسروا ما خسروا في نصف ولاية العهد الحالي، وهو ليس بالقليل؟ هل يمكن لفيلين ضخمين يتناطحان في غرفة ضيقة أن يلتفتا إلى كل ما يمكن أن ينوجد حولهما في لحظة إقتتالهما الطاحنة؟ عاشراً، لنقلها بصراحة، باتت المسألة وجودية، كما عبّر عن ذلك باسيل نفسه (“المعركة هي بمستوى الوجود”). لكن الوجودية تتبدى هنا شخصية وليست سياسية أو طائفية. كل من يريد إضعاف الحضور المسيحي في لبنان، إنما يريد إنتاج بلد على شاكلة قلعة أسامة بن لادن في تورا بورا أو على شاكلة بعض السلفيين الشيعة الذين لا يتقبلون الآخر الشيعي أولاً أو على طريقة السلفي الظلامي “الداعي عمار” درزياً. لذلك، صارت الوجودية تتصل بمستقبل جبران باسيل: هل يعقل أن يوافق رئيس التيار الوطني الحر على حكومة لا يملك الثلث المعطل فيها، ومن المحتمل أن تحل محل “العهد القوي” بعد إنتهاء الولاية في خريف العام 2022، وبالتالي يكون كمن يوجه رصاصة الرحمة إلى رأسه في السنة الأخيرة للعهد.. فكيف سيكون حاله بعد ذلك. لقد خسر باسيل أقصى ما يمكن خسارته ولم تعد العقوبات تخيفه ولا التهديد بالإنفجار أو الإرتطام الكبير. هي آخر الأوراق. لعبة حياة أو موت. لذلك، لن يتنازل، وستبقى الأبواب موصدة حكومياً حتى إشعار آخر. هل يعني ذلك أن سعد الحريري لا يتحمل مسؤولية هو الآخر، بعدما باتت حساباته أيضاً شخصية جداً هذه المرة تحديداً؟ للبحث صلة.