وليد فارس-أندبندنت
بعد أن توقفنا على استراتيجيات النظام الإيراني للتعاطي مع إدارة جو بايدن حتى 2024، وذلك عبر الاستفادة من قرار واشنطن العودة إلى الاتفاق النووي، لتمرر “مشاريعها الكبرى” من تكديس السيولة وتسريع التسلح وفك الحصار القانوني ورفع العقوبات، يبقى السؤال حول أجندات طهران فيما يتعلق بالمنطقة، أي حيال الشرق الأوسط والعالم العربي. فما أهداف النظام حيال سيطرته على جزء من الهلال الخصيب وجزء من اليمن، وما تلك الأهداف الموازية تجاه باقي الدول في الإقليم لا سيما تلك التي يخاصمها، كيف ستتحرك طهران جيوسياسياً خلال فترة بايدن حتى 2024؟
دار الممانعة ودار الحرب
مما بات واضحاً، استناداً إلى ممارسات العقود والسنوات الماضية، فإن القيادة الإيرانية تضع مصلحة النظام أولاً، وذلك تحت مظلة عقيدة “الجمهورية الإسلامية”، أي قبل المصلحة الحياتية والاقتصادية للمواطنين. وبالتالي لا ننتظر أن تقوم طهران بتنازلات كبرى حيال المطالب الغربية لتستفيد من المداخيل المالية لتحسين الاقتصاد والوضع المعيشي، بل ستستفيد من مداخيل الاتفاق النووي لتدعيم النظام داخلياً وتصليب سيطرتها على “مستعمراتها” العربية والمشرقية خارجياً. واستراتيجية الاستفادة من عودة واشنطن إلى الاتفاق ستكون على محورين. محور “دار الممانعة” أي الاحتفاظ بالدول أو المناطق التي تسيطر عليها ومنع إزاحة سيطرتها عنها بكل الوسائل، ومحور “دار الحرب” أي الدول والمناطق التي تحاربها “الجمهورية الإسلامية” من التحالف العربي، إلى المعارضات الوطنية، إلى إسرائيل وغيرها.
أولاً: المستعمرات الإيرانية
ما هو واضح وضوح الشمس أن النخبة الخمينية لن تتخلى عن الدول أو المناطق التي تسيطر عليها تحت أي ظرف كان، إلا تحت ضغط هائل، وهو بعيد الاحتمال تحت إدارة بايدن-هاريس بسبب الاتفاق النووي. وبالتالي فطالما استمر الانغماس الأميركي في آلية الاتفاق، لن تكون هناك مقاومة أميركية لسيطرة إيران على أربع دول عربية. أو هذا على الأقل ما تعتقده طهران، وقد تكون مصيبة ربما. فإذا وقعت واشنطن على معاهدة الـ”JCPOA” (خطة العمل الشاملة المشتركة) هل ستفشل نفسها ذاتياً عبر اشتباك كبير مع “الشريك الجديد” من أجل تحرير هذه الدول؟ الجواب أن القوى الضاغطة داخل أميركا ستعمل المستحيل لمنع بايدن من تحرير العراق وسوريا ولبنان واليمن من القبضة الإيرانية حتى الانتخابات المقبلة، وهذا ما تعول عليه طهران حتى 2024. ولكن كيف ستترجم إيران هذه الاستراتيجية في “المستعمرات”؟
العراق
واضح أن النظام الإيراني يتكل على ميليشياته في العراق لإبقاء البلاد تحت سيطرته. من هنا ستستمر إيران في تعزيز قدرات الحشد الشعبي والمجموعات الموالية لها، وستوسع هذا الدعم مع الحصول على المداخيل المالية بواسطة تزخيم الاتفاق النووي ورفع العقوبات. أمام طهران تحديان داخل العراق. الأول، هو وجود قوات أميركية، وستعهد إيران مهمة إجلائها للميليشيات عبر تسليحها لكي تهدد هذه القوات. وستحاول استعمال اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة لحمل الإدارة على سحب القوات العسكرية.
التحدي الثاني، هو انتفاضة المجتمع المدني ضد الميليشيات، إذ تخشى طهران تجدد تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بشكل أكبر، مما قد يؤدي إلى تدخل خارجي، بما فيه تدخل أميركي. ولكن القيادة الخمينية تظن أن توقيع الاتفاق مع واشنطن وضغط اللوبي فيها، سيمنع الإدارة من مساندة الانتفاضة الشعبية عندما تعود إلى الشوارع. مشروع إيران في العراق حتى 2024 هو تعميق السيطرة عليه، وصولاً إلى الإمساك بنفطه عبر شركات تسيطر عليها من خلال الميليشيات. وكل ذلك مبني على افتراض عدم رد إدارة بايدن على التوسع الإيراني.
لبنان
خطط إيران تجاه لبنان معروفة وقديمة، وتلخص بتكليف “حزب الله” السيطرة الحازمة والحاسمة على الجمهورية اللبنانية بكامل مفاصلها. وكما في العراق، معسكر المحور يحتاط لتحديين أساسيين يهددان “حزب الله”. الأول هو تجدد ثورة الأرز التي انفجرت في 2005، أو إعادة انفجار ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 2019، لأنه كما كتبنا سابقاً للشعب اللبناني قدرات ذاتية للثورة على ميليشيات الحزب. أما التحدي الثاني، فهو إعادة تدخل أميركا في لبنان لإضعاف الحزب، إما عبر قرار أممي جديد تحت الفصل السابع، وإما عبر قوات متعددة الجنسيات على نمط أفغانستان. ولتلافي هكذا أخطار، تعتمد قيادة “حزب الله” على قدرة طهران عبر الاتفاق النووي واللوبي في واشنطن على منع أي دعم أميركي جدي للمعارضة اللبنانية ضد الحزب، أو أي عمل أميركي مباشر ضد الميليشيات. والجدير بالذكر، أن هكذا معادلة كانت قائمة في لبنان منذ انطلاقة إدارة باراك أوباما في 2009، واستمرت خلال حقبة إدارة دونالد ترمب التي لم تتمكن من تغيير سياسة سلفه تجاه لبنان، وهي الآن تستمر مع إدارة بايدن. طهران تعتمد على الاتفاق النووي لحماية “حزب الله” في لبنان، ليس فقط من إسرائيل بل من اللبنانيين أيضاً. ولكن هل ستستمر هذه المعادلة لأربع سنوات أخرى؟
سوريا
المشروع الإيراني في سوريا للسنوات الأربع الآتية سيكون الأكثر قابلية للتغير بسبب المعادلات على أرض الواقع وتقاطع السياسات الإقليمية. فالهدف الأساسي الإيراني في تلك البلاد المقسمة والمدمرة هو في أقنومين. الأول، هو الحفاظ على النظام القائم بقيادة آل الأسد بكل الوسائل الممكنة لحماية التمدد الإيراني إلى البحر المتوسط. والثاني، هو إجراء تعديلات ديموغرافية تسمح بإقامة مناطق متماسكة طائفياً تربط العراق بسوريا ولبنان. إدارة بايدن لا تؤيد نظام الأسد ولا تحبذ التغييرات الديموغرافية في سوريا. ولكن السؤال الأكبر هو هل ستواجه إدارة بايدن الدور الإيراني في سوريا؟ طهران تعتقد أن واشنطن ستنتقد الميليشيات الإيرانية وعملها داخل سوريا ولكنها لن تتدخل ضدها عسكرياً. وهذا هو الأساس بالنسبة إلى النظام.
اليمن
أما ما تبغيه قوات الباسدران في الساحة اليمنية، فهو أيضاً معروف وواضح. طهران تهدف إلى الإبقاء على “النظام الحوثي” في الشمال مع ساحل يطل على البحر الأحمر طيلة السنوات الأربع المقبلة. وكما بالنسبة إلى دول “المحور” الأخرى، تعتبر إيران أن التسوية الإقليمية الدولية ستضمن بقاء “الجمهورية الحوثية” على مساحات واسعة من الدولة اليمنية. كيف؟ بمجرد أن تضغط إدارة بايدن على التحالف العربي لوضع حد لحرب اليمن والانسحاب منه، فإن ذلك سيتحول إلى ستاتيكو سيحمي الميليشيات المؤيدة لإيران لسنوات. وبالمقارنة مع “المستعمرات” الثلاث الأخرى، تطبق القيادة الإيرانية المعادلة المفترضة نفسها: هل ستقاتل الولايات المتحدة الميليشيات الحوثية مباشرة لتجردها من السلاح؟ مخططو طهران يعتبرون أن الاتفاق النووي سيضمن منع الحسم العسكري ضد الحوثيين، وبالتالي سيتم حماية هذه الميليشيات حتى 2024 على الأقل.
الاتفاق المظلة
من هنا، فإن الاعتقاد في طهران أن عودة الولايات المتحدة إلى نادي الاتفاق، ستحمي “الإمبراطورية” لنصف عقد تقريباً. لذا ينكب أصحاب قرار في “الجمهورية الإسلامية” على التوازن بين ما يمكنهم أن يقدموه من تنازلات من ناحية، والتأكد من أن ميليشياتها في الدول الأربع ستستمر وتنمو لأربع سنوات، ريثما تتطور تلك الميليشيات إلى شبه دولة كالحرس الثوري داخل إيران.
ولكن هل ستذهب إدارة بايدن إلى هذا الحد من قبول بالأمر الواقع أم أن هنالك خطوطاً حمراء لا ترى بالعين المجردة؟ وماذا سوف تكون ردود فعل “الدول المواجهة” لطهران؟ هذا ما سوف نعالجه في الحلقة المقبلة.