“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
على طريقة: “هيا نأكلهم قبل أن يأكلونا”، مضى أرباب “التفليسة” إلى الدعوة للمشاركة في “خميس الأسرار العمالي”. هي دعوة تأتي بمثابة إعلان حرب لـ “بلع الثورة” الحقيقية بنسختها المطلبية المستجدة ومن داخلها. هي “تكشيرة” عن أنياب سلطة سبّاقة في عمليات الفتك بالمطالب وتحويرها حتى تغدو أهدافاً سياسية. وإذا كانت هذه السلطة قد قرّرت النزول إلى الشارع، فعلى من ومن أجل من؟ وماذا تركت للثوار كي يثوروا عليه؟ بالتوازي مع ذلك، يحضر مشهد الصراع السياسي من البوابة العريضة. مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة ومُقبلة على الهلاك، وربما ماتت ولو أن “صاحبها” يتحاشى إلى الآن إعلان نبأ وفاتها.
في المبدأ، أفراد الطبقة الذين امتهنوا السطو على مطالب الناس من خلال ابتكارات شتى لعلّ أوقحها أشباه الجمعيات والإتحادات، قرّروا النزول إلى الشارع اليوم. بعبدا وميرنا الشالوحي بلغهم أن الأمر فيه ما فيه ومحل شبهة، ربطاً بهوية الداعين إليه، ولو أن أسباب الدعوة الأصيلة واقعية. لذلك حشدوا أنفسهم. يحتل عقلهم انطباع أن ثمة وراء الأكمة ما وراءها، وأن ثمة من يعدّ العدة لنقل المواجهة من الصالونات إلى الشوارع، ويتبدّى ذلك من هويات الداعين. “إنها دعوة لممارسة المزيد من الضغط على رئيس الجمهورية لاستخدام ما ينتج عنه في مجال التأليف”. ما عزّز هذا الإنطباع، “ركوب” تيار “المستقبل” تحديداً “ظهر” الثوار مجدّداً في مسعاه للعودة إلى السراي، تماماً كما ركبهم من ذي قبل ذات تشرين، وكما ركبهم آخرين، من الذين أصبحوا منظّرين ثوريين درجة خامسة!
في الـ”لالا لاند”، يتجاهل هؤلاء أن الخروج هو ضدهم وبسببهم! مع ذلك يمضون في دعوتهم غير آبهين لكمية الإستفزاز، التي ومن الممكن أن يتسبّبوا بها إن لم يكن أكثر من ذلك. وفي الدعوة لأكل روح الإعتراض لدى الناس تبرز جمعية المصارف. هذه الأخيرة مدعومةً بحزبها، لم تكتفِ بالإستيلاء على أموال المودعين من خلال سرقة القرن، بل تتحضر ولأجل طبقة الـ1% لسرقة غضب الناس.
وفي صباح الخميس، لا بد من أن يظهر الرشد من الغَي، وفي الطريق إلى ذلك، بدأ يُفرّخ “الرشد السياسي” من خلال بيانات أعلى القوم، التي، وعلى علاتها، وضعت حداً للتلاعب بمشاعر الناس وإيهامهم بإيجابيات “مفتعلة” وصلت إلى حد إغراقهم بها.
حتى ساعة متأخرة من نهار أمس، اتضح أن لا مشاورات حكومية تحصل. جُمّد كل شيء. الجميع مسؤول عن اغتيال “اللحظة” بخلاف إن كانت مصطنعة أو مفتعلة. المبادرة التي يتحدث الرئيس بري على أنها مستمرة، يظهر أنها عالقة في بركة من الرمال المتحركة. “الخليلان” بصفتهما راعيين للمفاوضات، لتصرفاتهما أن تفصح عن مصير المبادرة. عملياً، انصرفَ كل منهما باتجاه. النائب علي حسن خليل كأنه أعلن طلاقه مع النائب جبران باسيل، بدليل أن أي لقاء مفترض انعقاده لاحقاً لن يكون حاضراً فيه، هذا إذا انعقد. ما يعنيه ذلك، أن الحاج حسين خليل بقيَ وحيداً في المضمار باحثاً عن إصلاح ذات البين.
على صعيد مبادرة عين التينة، يتصرّف “التيار الوطني الحر” على أساس أنها سقطت واجهزَ عليها أولاً من أصحابها، وليس هناك من داعٍ، بعد البيانات المتطايرة بين عين التينة وبعبدا، لأن يعود الحديث والنقاش فيها ومنها وإليها. في قرارة نفسه، يعتبر الثنائي المسيحي العوني، أن بيان عين التينة بالأمس، أسّس إلى إعلان تموضع برّي الحقيقي الذي يُعد أقرب إلى طرف منه إلى وسيط، وما سبقه من “تلطيشات” حيال قصر بعبدا “برّية” المصدر، مضافاً إليها موقف النائب حسن خليل الأسبوع الماضي، والذي يفصح عن ذلك. وبما أن الأمر غدا واضحاً، فلماذا الإستمرار بمبادرة لا توازن فيها؟ إذاً لا مبادرة! على هذا الأساس أخذ يتصرّف العونيون.
على المقلب الآخر، كان الرئيس بري يحتكم إلى الأصدقاء. وعلى ما يتبين، لم يكن لديه نية في التصعيد على شكل إصدار بيان رسمي مباشر عنه رداً على بيان قصر بعبدا قبل يوم، بدليل أنه تولى نفي وبشكل سريع “تسريبة من الجوار” إلى أحد المواقع حاولت إقحامه في اشتباك مع بعبدا، معمّمًا على محيطه ألا يدخل في فعل ورد فعل مع بعبدا أو غيرها. لكن ما دفع ببري إلى تبديل وجهة نظره صباحاً، معاينته الصحف. إذ أن مصادر “فوق” لم تأخذ في عين الإعتبار نفي بري ولا انسيابية في التعامل مع هذه القضية وتفتيتها، إنما مضت إلى محاولة التنقير وزرع الشكوك حيال مبادرة عين التينة، وهو ما دفع ببري إلى اتخاذ قرار “وضع النقاط على الحروف” وتذكير رئاسة الجمهورية بأدوارها حيال الوساطات، وبأنها ليست غريبة عنها بل في عمقها، على طريقة القول: “كفى، وصلت لحدّها”.
هذا الجو من التنافس، خلق انطباعاً أن الإيجابية أو بالأحرى ملف التأليف رُحّل إلى موعد يُحدّد لاحقاً، وأن لا نية لدى أحد في المساكنة مع أحد بعد اليوم، سيما وأن ملف الإنتخابات النيابية فرض نفسه على ملف تأليف الحكومة. وهنا، تبرز دعوة توزّعها أوساط، فحواها أن الأزمة ستطول وتلامس مواعيد الإستحقاق المقبلة. بهذا المعنى، تأتي الدعوة لتجديد الثقة بحكومة تصريف الأعمال، وإبرام “تسوية موضوعية” مع رئيسها حسان دياب تعوّضه عما فات وتؤسّس لإخراجه “دون زعل”.
وعلى الرغم من كل هذه الأجواء، ثمة من لا زال مراهناً على التواصل. “بعد غد يومٌ آخر”. يبني في استدعائه على تجاوز نهار الخميس، موزعاً تلميحات حيال “تسويق” جولة تفاوض جديدة على نية إبقاء الأمور متوازنة و “تحت السيطرة”.