} بياريت فريفر-البناء
لا يخفى على أحد مقدار الخوف الذي يعيشه اللبنانيّون جرّاء الأزمات المعيشيّة التي تضرب بلدهم وتدفع بهم إلى مستقبلٍ يكتنفه الغموض، غير مدركين لما ينتظرهم وهم واقفون في طوابير ليبحثوا عن الفتات المتساقط من موائد الزعماء والمحتكرين والفجّار ليملأوا بما تيسّر بعضاً من الحليب، والمواد الغذائية والمحروقات، والأدوية…
أمام هول معارك البقاء والصمود على أرض وطن عظمت مشكلاته لتضرب حياة المواطن بالكامل، وأمام هول المعاناة المتكاثرة التي أضحت محطّات يوميّة، لا يُخفى أيضاً مقدار التدهور الحاصل في المستويات التعلّميّة وجودة التعليم في المدارس اللبنانيّة، نتيجة عوامل كثيرة اتّحدت لتضرب ما كان يتغنّى به لبنان. فلم تكتفِ المشكلات الاقتصاديّة والسياسيّة والحياتيّة بأن تعيق سبل العيش الكريم، بل دخل وباء كورونا ليقضي على ما تبقّى من حياة، وليزيد الطين بلّة كاشفاً عن عري النظام السياسي الحاكم وعجزه عن تأمين أبسط متطلّبات العيش.
بالأمس، كان هذا البلد منارة العلم والمعرفة يقصده القريبون كما البعيدون ليستشفّوا المعارف والخبرات، هو الذي صدّر أدمغةً استطاعت أن تذهل العالم بإنجازاتها. ها هو اليوم يتخبّط بصراعات وانقسامات مختلفة غير قادر على الخروج منها، إنّما على العكس لها ارتدادات خطيرة على نفوس مواطنيه.
فعلى الصعيد التربويّ الذي بات قاب قوسين من الانهيار التام، فبدل من أن يكون تلك المنارة المضيئة أضحى عبئاً يرهق الأهل في المدارس الخاصّة، وظلماً للمتعلمين الذين في الكثير من الأحيان لا يجدون لهم مقاعد وحتّى منصّات التعلّم عن بعد نتيجة عدم قدرة المدارس الرسميّة على مجاراة الواقع المعاش، ونتيجة استفحال الطبقة السياسيّة بالإضعاف المتعمّد للمدارس الرسميّة تطبيقاً لمصالحهم الخاصّة.
ففي السنوات الأخيرة، وضعت جودة التعليم تحت المجهر، وبحسب المختصّين والباحثين التربويين فقدَ التعليم الكثير من رونقه، حيث بات عملية تلقين معلومات معدّة لأن تفرّغ في الامتحانات ولا تحمل أيّ معنى من معاني النقد والتحليل. لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل ما يشهده لبنان مؤخراً من «توزيع إفادات وشهادات» يميناً ويساراً ضرب كلّ معاني التربية والتعليم. كما حطّ كورونا رحاله ليكون سبباً إضافياً في فشل المسيرة التعليمية، الذي حمل معه بدعة التعلّم عن بُعد للصغير كما للكبير غير آبهٍ بما يكتسبه هؤلاء من معارف وخبرات.
لا يقف الأمر عند هذا الحدّ، للأسف، فبدل من أن يكون الأهل السند الرئيس إلى جانب أبنائهم في اكتسابهم للمعلومات، باتوا هم مَن يخوضون الإمتحانات عنهم وكأنه، إذا تفوّق الأبناء في العلامات امتلكوا ما يريدون لمتابعة تحصيلهم العلمي، وهم في الحقيقة لا يملكون أدنى المعارف المطلوبة ليستحقّوا الترفيع.
بالإضافة إلى ضعف الجودة، لا يمكن إغفال النظر عن انحدار القيم الأخلاقية لدى المتعلّمين، فبحسب المعلمين الذين اعتبروا أنّ المتعلّمين فقدوا كّل معاني الاحترام تجاههم، لأنّهم باتوا ينتظرون ورقةً ترفّعهم بالصفوف دون عناءٍ وجهد، وهم لا يتكلّفوا عناء متابعة الدروس عن بُعد أو أقلّه أن يستذكروا ما يعطيه معلّموهم.
وكأنّ التعليم لم يعد رسالة بل أضحى مصدراً للرزق وكسب المال وحتّى للتجارة، وكأن المعلم هو المسؤول عن مصائب الحياة والمعاناة اليوميّة ليضحي عبئاً ثقيلاً على طلابه ويفقد هيبته.
أمّا من جهة أخرى، لا يمكن التغاضي عن الوضع المعيشي الصعب الذي حطّ رحاله على شرائح المجتمع كافّة، وبات المتعلّمون يضرسون من الحصرم الذي يؤكل على موائد السياسيين والقيّمين على شؤون البلد. بحيث انّ نسبةً كبيرةً من هؤلاء قد وقعوا ضحية الفقر وعدم قدرة الأهل على تأمين أبسط متطلبات التعليم في ظلّ غياب تام لأدوار الدولة، كما أُجبروا على أن يتحمّلوا هموماً سلبت منهم أحلامهم الصغيرة، ناهيك عن ارتفاعٍ هائلٍ في أرقام عمالة الأولاد خصوصاً أنّ الأزمة اللبنانية أردت بأكثر من 50% من الشعب اللبناني إلى ما دون خط الفقر.
من الذي يدفع الثمن؟ كيف يمكن إعادة ما تهدّم؟ كيف يمكن تحسين الجودة التعليمية؟ ما هي الخطط الموضوعة لإعادة ما انتزعه كورونا من سنين معارف ومهارات؟ أسئلة يطرحها الأهل كما المعلّمون، أسئلة يطرحها مجتمع يسعى أن ينفض غبار القهر والذلّ عنه ويعمل جاهداً على بناء وطن. فقبل الغوص في تعويض النقص الحاصل في المعارف يجب اولاً الانكباب على إعادة نسج القيم الأخلاقيّة التي تهدّمت ومن ثمّ وضع خطط ملائمة لتعويض النقص الكبير، فالمتعلمون لم يتعلّموا إلا القليل القليل لأنهم وُعدوا إما بإفادات أو بامتحانات شكليّة تساوي بين من يستحق النجاح بالذين لا يستحقونه. لذلك، ينبغي العمل على إيجاد سبلٍ لتحسين الجودة التربويّة لئلا تغدو كابوساً يرعب الجميع.
أوقفوا مهزلة الإفادات والإمتحانات الشكليّة ولا تساهموا في انهيار ما تبقّى من قلاع لبنان.