سعاده مصطفى أرشيد*-البناء
يستبطن السؤال الشك في ذلك، وفي ما إذا كانت تستطيع البقاء حتى نهاية العام الحالي، فتناقضاتها عديدة تشمل العقيدة والسياسة الداخلية والخارجية، وهي تناقضات تجعل من بذور فنائها تنبت سريعاً، فيما سوف تقتصر إنجازاتها على محاولاتها البقاء، وعلى أنها أخرجت نتنياهو من رئاسة الحكومة، ومحاولة الزجّ به وراء قضبان السجن، إنْ بسبب قضايا الفساد المنظورة أمام القضاء وإنْ بسبب ما سيجدونه في الأدراج من ملفات فساد وسوء إدارة في الآتي من الأيام.
تتمتع هذه الحكومة بدعم أميركي واسع الطيف، وهي إن دق القول حصيلة جهد واستثمار أميركي، برغم عدم الاتفاق الأميركي مع مكوناتها – وبرغم عدم اتفاق الحكومة نفسها مع مكوناتها – فما يجمع أطراف الحكومة سوية، هو الأمر ذاته الذي جمعها مع الإدارة الأميركية، وكلمة السر بنيامين نتنياهو، وتصفية الحسابات معه وطرده من رئاسة الحكومة ومحاولة إخراجه من عالم السياسة نهائياً. بناء عليه ستدعم الإدارة الديمقراطية هذه الحكومة بالسياسة والمال والغطاء الأمني والدبلوماسي، مقابل بقائها في الحكم ومقابل عدم عرقلتها للمحادثات الإيرانية – الأميركية بما يتعلق بالملف النووي ورفع العقوبات، وإن أخذت الحكومة هامش الحق بالمشاغبة على الاتفاق إعلامياً وخليجياً، ولعلّ هذه الرعاية قد بدت واضحة الثلاثاء الفائت عندما تدخلت الإدارة الأميركية مباشرة وعبر مصر للسيطرة على أزمة «مسيرة الأعلام» التي مرت بهدوء وسط حالة من القلق والتوتر الشديدين من احتمالية أن تنزلق الأمور بسببها إلى مستويات خطيرة.
من هنا فإن عناصر قوة الحكومة تقتصر على مفاهيم ثأرية وتصفية حسابات مع نتنياهو، أميركياً وداخلياً، أكثر مما تعتمد على رؤى واستراتيجيات وهي حالة فريدة في السياسة، ولا يبدو أن الديمقراطيين وبايدن على استعداد لمغفرة الإهانات المتكررة التي وجهها نتنياهو لهم في السابق، ومنها إعلانه عن بناء 1600 وحدة استيطانية جديدة أثناء زيارة بايدن لتل أبيب عندما كان نائباً للرئيس، وكذلك خطابه الفظ في الكونغرس في أيام أوباما الأخيرة، أما عناصر ضعف الحكومة، فهي عديدة وكما ورد أعلاه وتمسّ الايدولوجيا والسياسة وإدارة العمل – تنفيذياً -، في الشأن العقائديّ، يعرف عن رئيس الحكومة الجديد انه أول رئيس حكومة متديّن يلبس القبعة اليهودية في تاريخ دولة الاحتلال، وأول رئيس حكومة يمارس شعائر دينية ويتردّد على الكنس، وهو عضو فاعل في مجلس مستوطنات الضفة الغربية، ويرى أنّ كلّ فلسطين هي «حق» لليهود دون غيرهم من الضفة الغربية إلى الجليل إلى صحراء النقب، ويرى أنّ الوعد الرباني يشمل ما هو أكثر من فلسطين، فمن نهر مصر إلى النهر الكبير – حسب النص التوراتي، هو «حق» لليهود ومجال حيوي لهم في المنطوق المعاصر، في حين يرى حلفاؤه في اليمين أنهم يكتفون بالأغوار ومناطق (ج) والقدس طبعاً، وإضافة لذلك فإنّ شركاءه في الحكومة وفي البرلمان لديهم منظور مناقض تماماً، مثل حزب ميرتس وجماعة عباس منصور وبعض الأصوات الاحتياطيّة من النواب العرب.
يتمتع اليهود الحريديم – المتديّنين، بحقوق استثنائيّة، فهم لا يخدمون في الجيش ولا يؤدّون الخدمة الإلزامية ولا يدفعون الضرائب، ووظيفتهم هي الصلاة وإعطاء المشروعية الدينية للدولة وللحكومات، فيما يرى وزير الدفاع ضرورة سن قانون جديد، يلزمهم بأداء الخدمة العسكرية (ويلزم كلّ من يحمل الجنسية الإسرائيلية، بمن فيهم الفلسطينيون)، أما وزير المالية فهو لا يرى بهم إلا مجموعات طفيلية، تعيش على جهد من يعمل ويدفع الضرائب ويسهم في الاقتصاد ويدافع عن البلد، وهو بدوره يرى أنّ عليهم العمل والإنتاج ودفع الضرائب وهي أعمال تحتاجها البلاد أكثر من صلاتهم ودعائهم. والتناقض هنا حيث هؤلاء هم مصدر شرعية الحكومات الدينية وهم جمهور التطرّف الذي جاء بالحكومة أصلاً.
وفي الجانب العقائدي أيضاً، فانّ هذه الحكومة تفتقد إلى المشروعية الصهيو–يهودية، فقد كانت مضطرة للتعامل مع النواب الفلسطينيين، ونالت الثقة بأصواتهم وهي لا تستطيع البقاء دون دعمهم البرلماني، وهؤلاء بدورهم، لديهم مسؤوليات أمام جمهورهم، أحدهم من بدو النقب، لا زال بيته وبيوت أهله مهدّدة بالهدم.
قائمة الخلافات الحكومية – الحكومية في (إسرائيل) تطول، وتحتاج إلى صفحات وأبحاث، ويمكن تسجيل بعض الملاحظات السريعة، فهذه الحكومة أنهت وظيفتها الأساسية فور أدائها القسم وتسلمها الحكم، وذلك بأنّ نتنياهو قد أصبح خارج الحكم، وستنشغل سريعاً في خلافاتها وتبايناتها، ثم أن ملف إعادة اعمار غزة التي يرى الأميركي – حتى الآن – أنها يجب أن تتمّ وبسرعة، وأن يتلوها دعم مالي واسع قادر على تحقيق ازدهار وتوفير رفاه عيش لأهل غزة، وأنّ لذلك وظيفتين، الأولى أنّ أهل غزة سيكونون أكثر حرصاً على عدم الدخول في حرب جديدة حرصاً على مكتسباتهم التي أخذوا يجنون ثمارها بعد طول معاناة والتي قد تذروها رياح الحرب إنْ هبت ريحها، والثانية في إمكانية إيصال حركة حماس إلى الاندماج في مشروع سلام يبدأ بهدنة طويلة المدى. هذا في حين يرى وزير الدفاع غانتس ومعه الجيش، أنهم بحاجة لجولة جديدة مع غزة، توقع أذىً وألماً بالغاً بالمقاومة والبنى التحتية للقطاع، بحيث تستعيد بها (إسرائيل) قدرتها وسمعتها الردعية.
ولعلّ أشدّ ما سيواجه الحكومة وجود خصم بمثل خصمها وما يملكه من قدرات وخداع، وهو ولا شك سوف يتقن المعارضة بمقدار ما أتقن السياسة خلال سني حكمه الطويلة، ويملك من الدهاء والمكر والمراس ما لا يملكونه في الحكومة، ولديه القدرة على استعمال الخطاب العلماني والديني في وقت واحد والخطاب السياسي والعسكري – الأمني كذلك، الأمر الذي فعله في خطابه الأخير في جلسة الثقة، فقد رأى أنّ وجوده في الحكم هو ضمان لوجود الدولة، واعتبر أنّ خصومه أضعف من أن يدافعوا عن أمن الدولة أمام الأميركان، وفي موضوع الملف النووي الإيراني كما يفعل هو… واعتبر نفسه في منزلة النبي موسى، أو في مثل حالة، عندما خذله اليهود فخسف الرب الأرض بهم، خلاصة القول إنّ هذه الحكومة لن تهنأ وسيجعل خصمها اللدود أيامها غاية في الصعوبة.
فترة لا نعلم كم ستطول، سوف تنشغل بها (إسرائيل) بصراعاتها الداخلية، صراع حكومي – حكومي وصراع حكومة – معارضة، ولعلها قد تكون أياماً ثمينة للفلسطيني ليعيد قراءة المشهد بروية، ويعمل على إنهاء الانقسام، وعلى إعادة بناء نظام سياسي بما يعود على فلسطين وأهلها بالخير…