زينة علوش
في كندا صدمة بعد اكتشاف رفات أطفال كانوا ضحايا فشل المؤسسات الرعائية في توفير فرص التعليم والحماية، في وقت نجد في لبنان احتفالية فصل لأطفال عن ذويهم تجري مباشرة على الهواء.
شكل خبر اكتشاف رفات عائدة إلى 215 طفلاً وطفلة في أرض مؤسسة رعائية تابعة للكنيسة الكاثوليكية، أو المدارس الداخلية للشعب الأصيل في كندا كما سمتها الإرساليات التبشيرية، صدمة كبيرة أعادت إحياء موروث النظام الكولونيالي وتداعياته على الشعوب الأصلية في كندا.
وأكد بيان شعب “تكيملوبس تي سكويبيمك” (The nation of TK’emlups te Secwépemc) وجود رفات الأطفال في الأرض التابعة للمدرسة قرب كاملوبس في مقاطعة بريتش كولومبيا. أدارت الكنيسة الكاثوليكية المدرسة نيابة عن الحكومة الكندية بين عامي 1890 و1969، وتناوب على هذه المدرسة حوالى 500 طفل من الشعب الأصلي على مراحل متعددة. في 6 حزيران/ يونيو 2021، أعرب البابا فرانسيس عن أسفه، من دون أن يعتذر، عما قامت به الكنيسة الكاثوليكية عبر نظام فصل الأطفال الأصليين عن عائلاتهم، ومجتمعاتهم، ولغتهم، وثقافتهم ورميهم في النظام المؤسساتي التابع للكنيسة.
تزامن هذا الخبر الأليم من كندا مع متابعتي لحلقة “عاطل عن الحرية” على شاشة الـMTV في لبنان، حيث تتخذ قاضية قراراً بفصل طفلين (أخ وأخت من أب واحد وأم مختلفة) عن الرعاية الوالدية ووضعهما في عهدة مؤسسة “سعادة السماء”. هكذا على الهواء مباشرة، يحضر رجل الدين مجدي علاوي، مؤسس “سعادة السماء”، إلى بيت الوالد حيث يقوم معد البرنامج بإخباره، بحضور الطفلين، بأن المؤسسة سوف تتولى رعايتهما بموجب قرار الحماية الصادر عن القاضية.
مدرسة كاملوبس هي واحدة من أصل 139 مدرسة داخليّة موّلتها الحكومة الكنديّة، في إطار سياسة تهدف إلى إبعاد أبناء السكّان الأصليّين من ثقافة ذويهم ودمجهم في مجتمع البيض. تمّ إدخال حوالى 150 ألف طفل إلى هذه المدارس خلال الفترة الممتدّة من سبعينات القرن التاسع عشر، حتّى تسعينات القرن الماضي. وتعرّض كثيرون منهم لسوء المعاملة، ولقي حوالى 3200 طفل وطفلة حتفهم بسبب المرض، وسوء التغذية، وإساءة المعاملة.
فما الرابط بين خبر اكتشاف رفات الأطفال في كندا وحلقة “عاطل عن الحرية”؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد لي من عرض ملخص عن تاريخ المؤسسات الرعائية التبشيرية في كندا ومن ثم ربطها بواقع الرعاية المؤسساتية في لبنان.
مدرسة كاملوبس هي واحدة من أصل 139 مدرسة داخليّة موّلتها الحكومة الكنديّة، في إطار سياسة تهدف إلى إبعاد أبناء السكّان الأصليّين من ثقافة ذويهم ودمجهم في مجتمع البيض. تمّ إدخال حوالى 150 ألف طفل إلى هذه المدارس خلال الفترة الممتدّة من سبعينات القرن التاسع عشر، حتّى تسعينات القرن الماضي. وتعرّض كثيرون منهم لسوء المعاملة، ولقي حوالى 3200 طفل وطفلة حتفهم بسبب المرض، وسوء التغذية، وإساءة المعاملة. وعام 2007، أنشأت الحكومة الكنديّة “لجنة تحقيق ومصالحة”، جابت مختلف أنحاء كندا واستمعت إلى نحو 7 آلاف شهادة، وأصدرت تقريرها عام 2015، الذي أكد أن نظام الرعاية المؤسساتية أحدث خللاً كبيراً في بنية الشعوب الأصلية وأدى إلى انتهاكات ارتقت، بحسب الشعب الأصيل، إلى مرتبة الإبادة الجماعية.
شق نظام الرعاية المؤسساتية الاستعماري، المعروف باسم المدارس الداخلية للشعب الأصلي (Indigenous Residential School)، طريقه عام 1831، مع وصول البعثات الكولونيالية الأولى إلى شمال كندا، ما أدى إلى تدمير الهيكل البنيوي لمجتمعات السكان الأصليين، علماً أن الأطفال هم عصب هذه المجتمعات ومحورها. في ذلك الوقت، استقرت البعثات الأوروبية في أراضي السكان الأصليين وطالبت بالأراضي والموارد بموجب مبدأ الاكتشاف/ الأرض المشاع. حينها بدأت الممارسات العنصرية بالتكشف عندما واجه المستوطنون تحدياً في فهم تنوع التنظيم الاقتصادي والاجتماعي للشعوب الأصلية وعدم القدرة على التواصل بفعل اختلاف اللغة والمعتقدات الروحية والقيم الاجتماعية للشعوب الأصيلة.
تم تطوير IRS للقضاء على “المشكلة الهندية” كما ذكر دنكان كامبل سكوت، المشرف على شؤون الشعب الأصلي عام 1920. تهدف IRS، والتي تأسست في مواقع بعيدة من تجمعات الشعوب الأصيلة، إلى فصل الأطفال عن أسرهم في سن مبكرة وذلك بهدف القضاء على ثقافة الطفل. ومن ثم، توسع مفهوم الأرض المشاع ليشمل الأطفال المشار إليهم باسم Filius Nullius. وهكذا مدد الاستعمار سلطته لتشمل الأرض والأطفال مؤسساً بذلك إلى تفكيك بنية الشعب الأصيل إلى يومنا هذا، عبر استباحة الأراضي لمشاريع التنقيب عن النفط واستباحة الأطفال عبر وضعهم في عهدة الكنيسة الكاثوليكية.
كان الهدف المعلن لهذه المدارس هو توفير التعليم الرسمي للأطفال ودمجهم في الثقافة الأوروبية. استند نظام IRS إلى فرضية تضع حضارة المستوطنين ودينهم بمرتبة أكثر تقدماً، مقارنة بثقافة السكان الأصليين التي تم تصويرها على أنها وحشية وبربرية. بين عامي 1831 و1996 ، فُصل حوالى 150000 طفل من الأجيال المتعاقبة عبر إيداعهم المؤسسات الداخلية تحت رعاية الكنيسة، وبعد ذلك بالتنسيق مع الحكومة الفيدرالية الكندية. عام 1920، أصبح الحضور في المؤسسات الرعائية إلزامياً للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و15 سنة. واجهت العائلات التي لم تمتثل لهذا القانون عواقب قانونية بما في ذلك السجن.
تشير دراسات حول نتائج نظام الرعاية المؤسسية إلى فشل الحكومة الكندية في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في توفير التعليم الرسمي، حيث أن 3 في المئة فقط من الأطفال تابعوا تعليمهم لغاية الصف الأول من المدرسة الإعدادية عام 1930. وفي مقابل فشل النظام المؤسساتي في توفير التعليم للأطفال، نجح هذا النموذج الرعائي في تدمير النسيج الاجتماعي للسكان الأصليين وإعاقة تطوره. وتشير الأبحاث إلى تعرض الأطفال للإهمال والإساءة الجسدية والعاطفية والتحرش الجنسي في المؤسسات الرعائية. وقد أكد اكتشاف بقايا جثث الـ215 طفلاً في شهر حزيران 2021، أن القتل لم يكن مستبعداً في تلك المدارس علماً أن بعض الرفات يعود لأطفال دون الثالثة.
في الخمسينات من القرن الماضي، بدأت الحكومة في التخلص التدريجي من المؤسسات الرعائية بسبب اتساع المطالبة بإغلاق هذا النظام الرعائي. وعام 1983، أشار باتريك جونستون، مؤلف تقرير بعنوان “الأطفال الأصليون ونظام رعاية الطفل” إلى اعتماد الحكومة الكندية مقاربة جديدة لفصل الأطفال عن عائلاتهم الأصلية عبر إيداعهم في عائلات من غير السكان الأصليين بغرض التبني، في معظم الحالات من دون موافقة عائلاتهم.
في حالات كثيرة، تم إخراج الأطفال من أسرهم الأصلية ووضعهم في عائلات من غير السكان الأصليين بسبب الفقر وليس بسبب انتفاء الأهلية التربوية للوالدين. بحلول سبعينات القرن الماضي، تم فصل 10 في المئة من أطفال السكان الأصليين عن أسرهم ومجتمعاتهم الأصلية عبر تبنيهم في عائلات من غير الشعب الأصيل، وهي في الأغلب تنظر بدونية للشعب الأصيل وتتعامل معه بعنصرية. أدى هذا الوضع إلى انتشار الاعتداء الجسدي والجنسي على نطاق واسع في ظل تعتيم كامل عن وضع الأطفال المتبنين وفي غياب لأي دعم لعائلات الشعوب الأصلية التي فقدت مع فصل أطفالها بنيتها وماهيتها، ما أسس لمأساة متوارثة عبر الأجيال المتعاقبة إلى يومنا هذا بما يرقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
بحلول سبعينات القرن الماضي، تم فصل 10 في المئة من أطفال السكان الأصليين عن أسرهم ومجتمعاتهم الأصلية عبر تبنيهم في عائلات من غير الشعب الأصيل، وهي في الأغلب تنظر بدونية للشعب الأصيل وتتعامل معه بعنصرية. أدى هذا الوضع إلى انتشار الاعتداء الجسدي والجنسي على نطاق واسع في ظل تعتيم كامل عن وضع الأطفال المتبنين
“لجنة الحقيقة والمصالحة” قامت عام 2006 بالاستماع إلى أكثر من 6000 ناجٍ من الرعاية المؤسساتية والمتبنين. وكشف التقرير النهائي، الذي نُشر عام 2015، عن تعرض الأطفال للإيذاء الجسدي والجنسي، وصولاً إلى القتل المتعمد. وعلى رغم إغلاق المؤسسات الرعائية بشكل كامل وإلغاء قوانين فصل الأطفال الإلزامي عن عائلاتهم الأصلية، إلا أن الشعوب الأصلية في كندا ما زالت تعيش أثار الفصل العنصري الذي تعرضت له. ففي 26 كانون الثاني/ يناير 2016، قضت محكمة حقوق الإنسان الكندية بأن حكومة كندا مارست تمييزاً عنصرياً ضد 163 ألف طفل من السكان الأصليين. نتج عن هذا التمييز فشل كبير في ضمان وصول أطفال الشعوب الأصلية إلى الخدمات العامة، من دون التعرض لخطر الفصل. إلى يومنا هذا، يشكل أطفال الشعوب الأصلية في كندا حوالى 60 في المئة من مجمل الأطفال في نظام الرعاية البديلة وبعض التقارير تشير إلى أن 40 في المئة من نزلاء السجون هم من الشعوب الأصلية، الذين اختبروا الفصل عبر المؤسسات الرعائية أو التبني.
أعاد خبر اكتشاف رفات الأطفال في كندا إحياء آلام الفصل، فهؤلاء الأطفال لهم أمهات وجدات وعائلات وأقارب لم يملوا البحث عن خبر ما ليستكين الألم. هؤلاء الأطفال بقوا في عداد المفقودين واليوم فقط يعودون إلى بيوتهم ولكن في نعوش.
في عودة إلى حلقة “عاطل عن الحرية”، لقد هالتني احتفالية الفصل الجاري على الهواء مباشرة علماً أن الدراسات العالمية تشير إلى فشل المؤسسات الرعائية، كما في تجربة كندا، في توفير فرص التعليم والحماية للأطفال. فماذا لو استثمرت هذه الأموال، المهدورة على مؤسسات أثبتت فشلها دولياً، في دعم الوالد الذي بكى من قلة الحيلة على الهواء مباشرة وأمام أعين طفليه. وإلى متى تستمر البرامج الإعلامية بانتهاك الخصوصيات التي يجب ألا تقف عند حدود إخفاء وجوه الأطفال؟
للحديث تتمة.