حسين الوادعي
تأثير عمالقة التكنولوجيا الكبار لا يقتصر على التحكم في ما تقرأ أو تسمع أو تشاهد. إنها تتحكم في طريقة رؤيتك العالم، بل تحدد العالم الذي تريدك هي أن تراه.
مرت حادثة حجب “تويتر” و”فايسبوك” حسابات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من دون أن تأخذ حقها من النقاش. أحد أسباب ذلك هو الارتياح الواسع، عالمياً، لحجب الخطاب العنصري لديكتاتور مهووس بالقوة. لكن الحادثة كشفت أيضاً عن القوة المتنامية لعمالقة التكنولوجيا Big-Tec، وقدرتهم على التحكم في عقول الناس واختياراتهم.
عندما اندلعت الأحداث الأخيرة في فلسطين تكشف الوجه الآخر للديكتاتورية الإلكترونية الجديدة. فالمنصات التي حجبت خطاب الكراهية الخاص بترامب، حجبت أيضاً الخطاب الداعم والمساند للحق الفلسطيني المسلوب. لكن السؤال الذي لم يسأل بعد: ما هي المعايير التي استند إليها عمالقة التكنولوجيا في تحديد ما ينشر وما لا ينشر. وإذا كانت هذه المنصات الإلكترونية هي الأدوات الحصرية التي يتم من خلالها تبادل الآراء بين 6 مليارات مشترك، فهل من المقبول أن يتم اختيار “مجلس الحكماء” الذي يراقب المضمون من قبل الإدارة التجارية لهذه المنصات فقط، أم أن هذا القرار العالمي يجب أن يشارك فيه مليارات المشتركين في المنصات العولمية؟
في عالم الصحافة التقليدية، كان قرار النشر من عدمه، تتخذه هيئة تحرير مهنية تستند إلى قيم صحافية مشتركة عالمياً (الموضوعية، التوازن، الدقة، المسؤولية الاجتماعية..). وحتى لو رفضت هذه الصحيفة نشر مقالك تستطيع اللجوء إلى وسيلة إعلامية أخرى. لكن في الوضع الحالي، لا بديل لـ”فايسبوك” أو “تويتر” أو “يوتيوب”، على رغم كل المحاولات لإيجاد بدائل متحررة من سيطرة أصحاب المليارات.
ما هي المعايير التي استند إليها عمالقة التكنولوجيا في تحديد ما ينشر وما لا ينشر.
في الماضي، حاولت وسائل الإعلام التقليدية من صحافة واذاعة وتلفزيون التخفيف من سيطرة القوى السياسية والاقتصادية على حرية التعبير، من خلال إجراءات مثل منع تركز ملكية وسائل الإعلام في أيدي أشخاص معيّنين، وتقييد حق الدولة فى تملك وسائل الإعلام، إضافة إلى تطوير المعايير المهنية والأخلاقية للعمل الإعلامي. لكن “فايسبوك” و”تويتر” و”يوتيوب” تتحكم في خيارات 6 مليارات إنسان على هذا الكوكب في تركز غير مسبوق لمنصات صناعة الرأي العام في أيدي ثلاثة أشخاص فقط .
كنا نتحدث عن آلاف الصحف والقنوات الإذاعية والتلفزيونية التي كانت تتيح لنا مشاهدة وقراءة مضامين مختلفة ومتعددة ومتناقضة أحياناً. لكن هذا لم يعد يحدث في عصر المنصات الإعلامية الحصرية؟
لكن تأثير عمالقة التكنولوجيا الكبار لا يقتصر على التحكم في ما تقرأ أو تسمع أو تشاهد. إنها تتحكم في طريقة رؤيتك العالم، بل تحدد العالم الذي تريدك هي أن تراه.
إحدى أهم الظواهر الإلكترونية التي سنضطر للدخول في اشتباكات طويلة معها من أجل الدفاع عن الحريات هي “الخوارزميات” Algorithm. الخوارزمية هي مجموعة الخطوات التي يتبعها الحاسوب لتنفيذ مهمة ما. إنها أقرب إلى “المكونات” التي بناء عليها يتم ظهور نتائج البيانات وعمليات البحث والتصفح. على سبيل المثال، تقوم خوارزميات البحث بتحديد البيانات والكلمات التي تظهر نتائج بحثك بناء عليها، وتقوم خوارزميات أخرى (طبية مثلاً) بتحديد المعايير التي تظهر على أساسها المعلومة الطبية أو الآراء الطبية. ومهما كان عدد البيانات والمعلومات المتاحة على الانترنت ضخماً ومتعدداً، فإنه لا يظهر لك إلا ما تختاره لك الخوارزميات بناء على المعايير والتفضيلات المحددة داخلها. وهنا يكمن خطرها واستخدامها في التضليل والتحكم.
إن أول الزبائن المهتمين بالتحكم في صياغة هذه الخوارزميات هم المعلنون الكبار، لان اعلاناتهم تنجح إذا كانت الخوارزميات تدعم التفضيلات التي تقود الناس إليها.
إن أول الزبائن المهتمين بالتحكم في صياغة هذه الخوارزميات هم المعلنون الكبار، لان اعلاناتهم تنجح إذا كانت الخوارزميات تدعم التفضيلات التي تقود الناس إليها.
نحن نعيش في عالم نتعرف فيه إلى “العالم الواقعي” من خلال “العالم الافتراضي”. إذا أردت مطعما لتناول العشاء مع زوجتك ستبحث عن الخيارات عبر التطبيق الإلكتروني المتخصص. وإذا كنت تبحث عن طبيب أمراض باطنية مشهور ستلجأ إلى تطبيق طبي معروف. لكن لا تعتقد أبداً أن هذه التطبيقات تدلك على كل المطاعم المتاحة أو كل الأطباء الموجودين. أنها تعمل بناء على شبكات معقدة من الشفرات والبرامج والخوارزميات المرتبطة بالإعلانات والمستثمرين الكبار، وبناء عليها يتم توجيهك إلى عدد محدود جداً من من الخيارات حتى لو انتقلت من موقع إلى آخر ومن صفحة إلى أخرى.
قد يريدك “الأخ الأكبر” أن تجلس في البيت لتستهلك عدداً أكبر من حلقات المسلسلات المدفوعة مسبقاً، وتشتري بضائع أكثر عبر المتاجر الالكترونية التي تدفع ملايين الدولارات مقابل إعلانات عبر الفضاء الإلكتروني. حسناً… يمكنهم ذلك عبر تكثيف تعرضك للاخبار السلبية عن ازدحام الطرقات وحوادث السيارات والتلوث والتقلبات الجوية المزعجة.
لا يقتصر دور الخوارزميات على المضمون التجاري فقط. إن المضمون غير التجاري مهم جداً لجذب الجمهور، وهذا ما يجعل المنصات الالكترونية الكبرى ميالة للمضمون الأكثر تطرفا سواء في السياسة أو الجنس أو الأفكار. هل تريد أن تعرف النقاشات الدائرة حالياً حول العنصرية أو المثلية أو الديموقراطية. ما لم تكن ذا قدرات عالية جداً في البحث عبر المصادر المتعددة، فإن الخوارزميات ستقودك إلى خيارات محدودة و”متطرفة” مسبقاً، بناء على ما في جعبة مالك المنصة من إعلانات.
كان الفصل بين التحرير والإعلان واحداً من أبرز مبادئ الصحافة المهنية. لكن هذا يبدو مستحيلاً في عالم المنصات الإلكترونية. الإعلان سيأتي إليك على شكل خبر محايد ونصيحة خبير واستشارة طبيب وعلى شكل حقيقة مثبتة لإنقاذ حياتك!
قضية الحرية واحدة من أقدم القضايا التي عملت البشرية جاهدة من أجل توسيعها والدفاع عنها. سابقاً كانت الدولة وأجهزتها خصم الحرية الأول. لهذا كانت معظم الآليات التي أوجدها الفلاسفة والمفكرون والنشطاء لحماية الحريات الشخصية والعامة موجهة أساساً للحد من قمع الدولة. لكن الذي يتجسس عليك اليوم والذي يضللك اليوم ليس الدولة وحدها. ويبدو أن النشطاء والحقوقيين في أمس الحاجة للتحالف اليوم مع المنظومات القانونية للدول لحماية الحريات من اعتداءات التكنولوجيات الكبرى!
يقول خبراء إنه لا تمكن مواجهة ديكتاتورية الخوارزميات وأوتوقراطية الذكاء الاصطناعي إلا من طريق الذكاء الصناعي نفسه. أي عبر قيادة نضال مدني طويل الأمد من أجل ذكاء اصطناعي أكثر تعددية وخوارزميات/ مضامين أقل تأثراً بالإعلانات.
وحتى ذلك الحين تشكك في العالم الذي تتعرف إليه من خلال الفضاء الإلكتروني. إنه ليس العالم الحقيقي بكل تعقيداته وخياراته، بل هو ذلك العالم الذي اختارت خوارزميات “الأخ الأكبر” أن تقدمه لك في الوقت الحالي.