كأن لبنان يقف على رمال متحركة، بعد انسداد الأفق في وجه أي إطار للحل، وتزداد الأزمات الاقتصادية سوءاً كما الأوضاع المعيشية والصحية، التي باتت تهدد المواطن ببديهيات العيش.
وفي ظل انسداد السبل بوجه أي حل سياسي، بعد التعقيدات المتواصلة لتأليف الحكومة، والتي تراوح مكانها منذ تسعة أشهر تقريباً على تكليف سعد الحريري في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، يظهر المجتمع الدولي قلقاً واهتماماً بالغين خوفاً من تدهور الأوضاع وخروجها عن السيطرة، بخاصة بعد تقارير أمنية، إقليمية ودولية، تفيد أنه بالتزامن مع التدهور الاقتصادي والمالي، يتم التداول عن التحضير لتصعيد كبير في الشارع من الممكن أن يتطور إلى ظهور مسلح وتوجه لمنازل السياسيين، وأشارت المعلومات إلى أن الأمور ذاهبة نحو فوضى وتخريب واستخدام السلاح في الشارع وأعمال نهب وسرقة وتصفية حسابات بحجة ارتفاع سعر صرف الدولار والغلاء المعيشي تنفيذاً لأجندات سياسية، بحسب المعلومات المتوافرة، وذلك منذ مارس (آذار) الماضي. من هنا يأتي إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن التوجه لإنشاء آلية تمويل طارئة للخدمات الأساسية في لبنان، وقال خلال مؤتمر صحافي في 10 يونيو (حزيران) الجاري في باريس، “نعمل فعلياً مع عدد من الشركاء في المجتمع الدولي حتى نتمكن في مرحلة ما، إذا استمر غياب الحكومة، من النجاح في الحفاظ على نظام تحت قيود دولية، مما يسمح حينها بتمويل الأنشطة الأساسية ودعم الشعب اللبناني”. مما جعل كثيراً من المراقبين، يعدونه إنذاراً بالغ الخطورة على ما ينتظر لبنان في الأيام المقبلة.
قائد الجيش دق ناقوس الخطر
هذا الانحدار المالي والمعيشي وصل إلى المؤسسات الأمنية، مما دفع بقائد الجيش العماد جوزيف عون إلى أن يطلق صرخة في وجه المسؤولين اللبنانيين، في مارس الماضي، وذلك بعد خفض موازنة المؤسسة العسكرية. وتساءل عون “إلى أين نحن ذاهبون؟ ماذا تنوون أن تفعلوا؟ هل تريدون جيشاً أم لا؟”، مضيفاً “أنهم لا يكترثون للجيش ولا لمعاناة العسكر”، وأكد “لقد حذرنا أكثر من مرة من خطورة الوضع وإمكان انفجاره… الجيش اللبناني لن يسمح بالمساس بالاستقرار والسلم الأهلي، ولن يسمح بتكرار ما حصل في عام 1975”.
وأشار إلى سياسة التقشف التي تعتمدها قياة الجيش منذ عام 2018، “مارسنا التقشف في الطعام، فألغينا اللحوم من وجبات العسكريين، نحسم ليتراً من كل صفيحة بنزين لنتدبر أمرنا في ما خص المحروقات. خفضنا التدريبات والدورات في الخارج، حتى الملحقين العسكريين وعددهم لا يتجاوز 13 حرمونا منهم في المقابل، الملحقون غير العسكريين ما زالوا موجودين، لماذا الجيش؟”. هذه الصرخة عدها مراقبون أنها جاءت بمثابة دق لناقوس الخطر. وأتت دعوة قائد الجيش الفرنسي الجنرال فرنسوا ليكوانتري لعون في 25 مايو (أيار) الماضي، في هذا الإطار، بعد يأس فرنسي واضح من إمكانية تشكيل حكومة “إنقاذ”، وكان ماكرون استقبل عون، في إشارة لافتة لمدى الاهتمام الذي توليه فرنسا لمؤسسة الجيش اللبناني. ونقلت وكالة “رويترز” عن مصدرين بشأن اللقاء “أن فرنسا تعتزم تقديم إمدادات غذائية وطبية لأفراد الجيش، كما ستعمل على ترتيب مؤتمر بهدف حشد الدعم من المجتمع الدولي للجيش”.
مؤتمرات دولية لدعم الجيش
في هذا السياق كانت السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا أشارت إلى أنه تم عقد مؤتمر أميركي لبناني لموارد الدفاع فى 21 مايو الفائت، بمشاركة كبار القادة من وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين والجيش اللبناني، وكان على رأس جدول الأعمال نقاش حول سبل دعم الجيش اللبناني اقتصادياً في هذه الأوقات الصعبة، لافتة إلى أن الجيش اللبناني تسلم، أخيراً، من الولايات المتحدة 95 حاوية ذخيرة تقدر قيمتها بأكثر من 55 مليون دولار بهدف تجهيز عمليات الجيش ومساعدته فى أداء مهامه. جاء هذا التصريح في ختام تمرين “الاتحاد الحازم” الذى جمع بين الجيشين الأميركي واللبناني خلال الفترة بين 17 و28 مايو الفائت، وأضافت أن بلادها تعتزم وعبر وزارتي الخارجية والدفاع تقديم 120 مليون دولار إلى الجيش في مجال التدريب والوسائل الدفاعية، إضافة إلى تقديم ثلاثة زوارق خفر سواحل للدوريات، و59 مليون دولار لدعم قدراته في حماية الحدود الشرقية وضبطها، كما أكدت أن بلادها تواصل النظر بسلطات إضافية تمكنها من تقديم مساعدات استثنائية لهذه المؤسسة.
وكانت وزارة القوات المسلحة الفرنسية، أعلنت عن استضافة باريس اجتماعاً دولياً عبر الإنترنت في 17 يونيو الحالي لحشد الدعم للجيش اللبناني، الذي يسعى لاجتياز أزمة اقتصادية تضعه على شفا الانهيار. وبحسب مصادر إعلامية فـ”الاجتماع سيلتمس الدعم من دول تعرض الغذاء والمواد الطبية وقطع الغيار للعتاد العسكري، غير أنه لا يستهدف تقديم الأسلحة وغيرها من العتاد”.
وفي معلومات حصلت عليها “اندبندنت عربية” تعتزم باريس عقد مؤتمر بعيداً عن الإعلام من 21 حتى 27 يونيو برعاية وزارتي الخارجية والدفاع الفرنسيتين، يضم مفكرين من المنطقة وممثلين عن الجيش اللبناني، يبحث في سياسات فرنسا في الشرق الأوسط.
تمويل الجيش اللبناني
وكان صدر عن “وكالة الأنباء المركزية” أن الاتصالات التي أجراها مسؤولون فرنسيون وإيطاليون بعدد من الدول الغربية والعربية نجحت في تأمين نحو 75 مليون يورو، وأن عدداً من المسؤولين العرب، لا سيما من دول الخليج، سيشارك في مؤتمر باريس لدعم الجيش.
وفي تقرير أعده ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركية السابق لشؤون الشرق الأدنى وغرانت روملي المستشار السابق لسياسة الشرق الأوسط، لصالح معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يقول “على الرغم من أن تمويل “الجيش اللبناني” كان مثيراً للجدل في بعض الأحيان بسبب تواطؤ “القوات المسلحة” مع “حزب الله” واختراق الأخير لها، إلا أن هذا الدعم كان حجر الزاوية في السياسة الأميركية في لبنان منذ “ثورة الأرز” عام 2005. وقد تجاوز الحجم السنوي لـ”التمويل العسكري الخارجي” المخصص للبنان ما يزيد قليلاً على 100 مليون دولار على مدى السنوات الثلاث الماضية، مدعوماً بما يقرب من 100 مليون دولار من الإنفاق الإضافي لوزارة الدفاع الأميركية على أمن الحدود وأنشطة التدريب، إضافة إلى حوالى 3 ملايين دولار من الإنفاق على صناديق “التعليم والتدريب العسكري الدولي”. وهذا يجعل واشنطن المانح الرئيس لـ”الجيش اللبناني”، حيث تمثل الهبات الأميركية الغالبية العظمى من ميزانية مشتريات القوات المسلحة”. يذكر أن الولايات المتحدة تقدم القسم الأكبر من المساعدات الدولية للجيش، وقد بلغت قيمة ما قدمته بين عامي 2006 و2016 حوالى 1.2 مليار دولار، شملت أسلحة، ومعدات، وصيانة، وقطع بدل وتدريب وغيرها.
لكن لما هذا القلق على مؤسسة الجيش من قبل المجتمع الدولي، وعقد مؤتمرات لتمويله من مؤتمر واشنطن الافتراضي، إلى مؤتمر باريس، الخميس المقبل؟ وهل أتت صرخة قائد الجيش بعد التقارير الأمنية التي تشير إلى أن الأوضاع اللبنانية ذاهبة نحو تفجير أمني في الشارع، وماذا عن عناصر تنظيم “داعش” الذين تحدث عنهم الإعلام؟ ماذا رشح من معلومات وماذا قال قائد الجيش للرئيس الفرنسي خلال لقائهما، وهل صحيح أنه يحضر لحكومة عسكرية؟
الجيش صمام الأمان
يقول الكاتب الصحافي جوني منير، إن مؤسسات الجيش تعتبر صمام الأمان في كل دول العالم، فكيف في الدولة اللبنانية التي تعيش أسوأ حالات الانهيار ومعرضة للتشرذم والدخول في الفوضى الشاملة، والضامن في عدم الانزلاق إلى هذا الدرك هو مؤسسة الجيش. تلك المؤسسة التي تعيش المخاطر المعيشية، من الواجب تحصينها لضمان عدم انزلاق الساحة اللبنانية لحرب الأهلية مرة جديدة.
ويشير إلى أن الصرخة التي أطلقها قائد الجيش لها علاقة بالوضع المعيشي، ويسأل هل هناك من خطط لمواجهة هذا الواقع؟ حيث إن رواتب العسكريين أصبحت زهيدة جداً بعد تدني سعر الليرة اللبنانية، الجيش أوقف استهلاك اللحوم في سياسة التقشف التي يتبعها، راتب الجندي بالكاد يكفي للتنقل، لذا يفضل عدد من الجنود عدم مغادرة مراكز عملهم لأنهم لا يستطيعون تسديد كلفة التنقلات، مضيفاً “هذا الأمر خطير جداً ويهدد المؤسسة العسكرية”.
الوضع الحالي مناسب لتحرك التنظيمات المتطرفة
وعن تحرك بعض عناصر “داعش” يقول منير، إن هذه الأجواء المتلبدة من فقر وعوز تشكل بيئة ممتازة لـ”داعش” والمجموعات المتطرفة الأخرى كي تنمو. وهو ما ظهر بعد حادثة كفتون (بلدة لبنانية) حيث كشف ليس فقط عن خلية بل مجموعة عسكرية مؤلفة من 34 عنصراً، وما كشف عنه، أخيراً، من أسلحة في بلدة عرسال. لذا أتت صرخة قائد الجيش كي يتحمل المسؤولون واجباتهم، ومع هذا جرى إطلاق النار سياسياً على كلمته بدل معالجة الموضوع. ووضع كلام قائد الجيش في إطار ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسية المقبلة.
وعن مؤتمر الدعم الفرنسي يؤكد أن وزيرة الدفاع الفرنسية هي من أبلغت قائد الجيش بموعد المؤتمر إبان زيارته إلى فرنسا، وله علاقة بإمكانيات الجيش اللوجستية التي تلاشت وكيفية دعمه. أما بالنسبة للقاء مع الرئيس الفرنسي، فتطرق لموضوع الاستقرار في لبنان وكيفية ضمانه.
لقاء الرئيس ماكرون مع عون “سابقة”
وأشار الكاتب الصحافي إلى أن قائد الجيش طلب إيجاد حل في موضوع النازحين السوريين. وتطرق الحديث أيضاً حول كيفية بقاء الموضوع الأمني مستقراً خصوصاً في الجنوب، وبخاصة بعد حرب غزة وهي مسألة تلهب الساحة اللبنانية.
وعن خلفية لقاء ماكرون مع قائد الجيش يضيف منير أن ماكرون استقبل قائد الجيش رغم انشغال فرنسا الكامل بالأحداث في أفريقيا حينها، وفي أعمال القمة الأوروبية التي عقدت في بروكسل. ورغم ذلك أعطى ماكرون فسحة من الوقت للقاء عون لمدة 45 دقيقة، وهي خطوة اعتبرت سابقة لأنها خرقت البروتوكول الفرنسي على مستوى الرئاسة. وأراد ماكرون أن يتعرف شخصياً على قائد الجيش، بعد أن وصل إلى أروقة الإليزيه ما تعاني المؤسسة العسكرية. وبحسب مصادر قريبة من الإليزيه تعاطى قائد الجيش اللبناني مع كل المسائل التي طرحت خلال اللقاء من إطار مسؤول وعسكري، ولم يخرج عن نطاق مهمته العسكرية، ولم يذهب باتجاه مواضيع سياسية، بخلاف ما تعود عليه الفرنسيون من مسؤولين لبنانيين الذين يبادرون عند فرص مماثلة، إلى التحدث أو التلميح إلى طموحات شخصية لديهم.
أما عن الحكومة العسكرية التي كثر الكلام عنها في الإعلام، يؤكد الكاتب الصحافي أن قائد الجيش غير متحمس حيالها ولا يريد التعاطي في الموضوع السياسي، وهو ملتزم بقرارت القيادات السياسية وينفذ أوامرها، مما يعني أنه غير راغب في هكذا حكومة، مع أن الحكومة العسكرية أصبحت مطلب الناس نتيجة الفشل الذريع للطبقة السياسية، إن من ناحية تشكيل حكومة أو معالجة الأزمات المتراكمة.