ملاك عقيل -أساس ميديا
رَفَعت الحرب الكلامية المباشرة بين بعبدا وعين التينة من منسوب الاحتقان الحكومي ووضعت الرئيسين نبيه بري وميشال عون وجهاً لوجه بعد مسار من الكباش الحادّ بين الطرفين: الأول، مدعوماً من حزب الله، أطلق فتوى تحريم تكليف شخصية غير سعد الحريري، والثاني اتّهم للمرّة الأولى علناً رئيس مجلس النواب بمخالفة الدستور، داعياً إيّاه إلى عدم “التوسّع في تفسيره لتكريس أعراف جديدة لا تتآلف معه”.
وفيما أشارت رئاسة الجمهورية، في بيان أمس، إلى “الجهات التي تتطوّع مشكورة للمساعدة في التأليف”، حذّرت من “الزخم المُصطنع الذي يفتعله البعض، والذي لا أفق له إذا لم يسلك الممرّ الدستوري”.
رسائل واضحة المعاني تقاطعت مع ما يصل من داتا إلى القصر الجمهوري عن مخطّط لتحرّكات منظّمة في الشارع، الهدف منها ممارسة المزيد من الضغط على رئيس الجمهورية. وأبرزها التحرّك التصاعدي للاتحاد العمّالي العام الذي سيبلغ ذروته بعد غد الخميس، في ظلّ فشل حزب الله التامّ في إبقاء الأمور تحت السيطرة بين حليفيْه، فيما بات الحزب نفسه في دائرة الاتّهام العوني بـ”التآمر” لإبقاء العهد في أشهره الأخيرة من دون حكومة “لمجرّد وقوفه على الحياد”.
لكنّ ثمّة واقعاً حكومياً أنتَجَ نفسه بنفسه: لا سعد الحريري ولا جبران باسيل أصحاب مصلحة في تأليف حكومة.
الأوّل خائف من داخلٍ “ملغوم” بأزمات قد لا تصمد حكومته طويلاً أمامها، ومن خارجٍ غير مضمون، لا بغطائه السياسي ولا بدولاراته.
أمّا الثاني فيخوض المواجهة بذهنيّة حرب الإلغاء: لا حكومة برئاسة الحريري وميشال عون في بعبدا إلا إذا وقّع الرئيس المكلّف شيكاً على بياض حول سلسلة التزامات يقول البعض إنّها إنعاشٌ لتسوية 2016، فيما العونيون يعتبرونها خارطة طريق للخروج من الأزمة، وعلى رأسها الالتزام بالإصلاحات.
لكنّ الواقع الأهمّ هو تشابه الخصمين في مصيرهما، مع الفارق في نسب الخسائر. فالحريري وباسيل خسرا محوراً طويلاً عريضاً من الحلفاء ومن الشخصيّات المؤثّرة الداعمة لكلٍّ منهما.
ولسخريات اللعبة السياسية لم يتبقَّ لهما سوى تقاسم دعم الثنائي الشيعي. بري إلى جانب الحريري، وحزب الله مبدئياً إلى جانب عون وباسيل، لكن من دون أن يخوض الحزب معركة نائب البترون، كما يفعل برّي مع الرئيس المكلّف.
وهنا تحديداً تشي الكواليس باحتقان بين الضاحية وبعبدا لم يعد سرّاً، وهو يعزّز مناخات، يعرفها قلّة، بأنّ تفاهم مار مخايل لطالما ارتبط بشخص ميشال عون، وليس بموقع رئاسة الجمهورية أو موقع “رئيس أكبر كتلة مسيحية”.
لذلك يؤكد العارفون أنّ “حزب الله يُمارس سياسة ضبط نفسٍ عالية في تعاطيه مع رئيس الجمهورية وباسيل، تماماً كما فعل على مدى عهود مع حليفه الشيعي نبيه بري لكون الأرض في علاقته مع عين التينة لم تكن تتماهى دائماً مع القرارات على مستوى الرأس، وكانت العلاقة على مستوى الجمهورين الشيعيّين تحتاج بشكل دوري إلى صيانة لردّ أنصار “الحليفين” بعضهما عن البعض الآخر. ولذلك سيكون لحزب الله كلام آخر بعد مغادرة عون قصر بعبدا في تشرين الأول 2022، إن حصل الاستحقاق الرئاسي في موعده، وأمّا الآن فسيبقى تفاهم عون والسيد حسن نصرالله الشخصي والسياسي قائماً وثابتاً”.
بالتأكيد، بدأت مناخات حزب الله المستجدّة تأخذ طريقها إلى العلن في الأشهر الفاصلة عن الاستحقاقين النيابي والرئاسي، ويمكن رصدها في مواقف بعض شخصيات حزب الله أو الدائرين في فلكه. أمّا العونيون فيروّجون لـ”تحالف رباعي يُحضّر ضدهم، وفي صلبه حزب الله”، ويتّهمون الحزب بتأمينه الغطاء الكامل للحريري حين نال من دار الفتوى “تعهّداً سنّياً” بتثبيت تكليفه مع تحريم انتقال التكليف إلى أيّ مرشّح سنّي آخر لرئاسة الحكومة.
ويقول العارفون إنّ “التفاهمات في المنطقة هي التي ستحدّد مصير تعاطي حزب الله مع مرحلة ما بعد ميشال عون، وليس جلوس ممثّلين عن التيار الوطني الحر وحزب الله إلى الطاولة نفسها لتعديل بنود ورقة تفاهم مار مخايل”.
أدرك حزب الله دوماً أنّه يتعامل مع حليف “عنيد”، لكن مؤسساتي للعظم، إلى حدّ “التخريب والهدم”، تربطه تصفية حسابات قديمة مع حليفه الآخر نبيه بري شكّلت وجع الرأس الأكبر له منذ 2006. وكان هذا الحليف يُنظّر بنهمٍ خلال وجوده في المنفى لعدم مشروعيّة سلاح حزب الله في مواجهة إسرائيل قبل عام 2000 حتّى. وواكب الحزب بدقّة “عملية تحضير” وريثه جبران باسيل برعاية سياسية مثيرة للاستغراب لم تشهدها قصور ومقرّات كلّ الزعماء الذين توالوا على الحكم قبل الطائف وبعده.
وفي ضوء خراب ما بعد 17 تشرين 2019، الذي بدأ يعيد رسم أحجام الكتل والمرجعيات السياسية ويؤسّس لمحاور تُرسَم خطوطها بين واشنطن وموسكو والرياض وسوريا، لم يعد لتفاصيل تأليف الحكومة أيّ تأثير يُذكر وأيّ أهمية، كأنّ يُصوَّر مثلاً أنّ الاتفاق بين عون والحريري على مرجعية من يسمّي الوزيرين المسيحيين، أو حلّ معضلة منح باسيل الثقة لحكومة الحريري، سيكون الممرّ لحكومة ستحرِّك أساطيل المجتمع الدولي لدعم لبنان والبدء بمهمّة الخروح من “فم التنين”.
يقول متابعون: “سقطت مبادرة بري أم لم تسقط، الأمران سيّان. حتى استئناف الفرنسيين لنشاطهم عبر السفيرة الفرنسية آن غريو، أو من خلال الزيارة المتوقّعة لموفدين رئاسيين فرنسيين إلى لبنان، لن يتعدّى إطار الشكليات، ولا سيّما أنّ الهمّ الأوروبي اليوم ينصبّ بشكل أساس على التوافق على آلية دولية للدعم المالي للبنان تفادياً للأسوأ”.