العميد الركن نزار عبد القادر -اللواء
يواجه لبنان منذ أكثر من عقدين مجموعة من الأزمات المعقدة، بعضها سياسي وبعضها مالي واقتصادي، مع كل ما ترتب على ذلك من نتائج وتراكمات على المستويين الداخلي والخارجي. تسببت الأزمات المالية والاقتصادية بانيهار مالية الدولة وبانهيار النظام المصرفي معها، حيث عجزت المصارف عن الوفاء بالتزاماتها تجاه المودعين، كما عجزت عن أداء دورها الأساسي في دعم القطاعات الانتاجية أو في اجراء التحويلات المالية لخدمة التبادلات التجارية، وأبرزها خدمة الاستيراد للمواد الأساسية اللازمة لتأمين الخدمات العامة، أو الحاجات الخاصة للمواطنين، ومن أبرزها التيار الكهربائي، والخدمات الصحية، والمحروقات، والمواد الغذائية. اما على الصعيد الخارجي فقد أدّت الأزمات السياسية إلى اضعاف دور الدولة وتفكيك مؤسساتها، وأدى ذلك إلى انحراف لبنان عن مساره الطبيعي والتقليدي على المستويين العربي والاجنبي، والذي استقر في نهاية المطاف على ما نحن عليه من عزلة عربية وغربية.
وضعت الأزمات المتوالدة منذ انتهاء الحرب عام 1990 مع نتائجها المتراكمة البلاد امام تحديات سياسية واقتصادية ومالية خطيرة. لم يُحسن الحكام والنخب السياسية مواجهتها، فاضاعوا العديد من الفرص الثمينة التي قدمها لهم العالم العربي مع مجموعة أصدقاء لبنان من الدول الغربية، فبدل ان تلتفت القوى السياسية للقيام بعملية بناء الدولة القادرة، فقد عملت على تقاسم الدولة، وتعميم ثقافة الفساد على كل القطاعات التجارية والخدماتية والاقتصادية والمالية، وصولاً إلى قطاع التعليم والثقافة.
بمعزل عن كل ما نقرأه أو نسمعه من قراءات وشروحات سلبية ومتشائمة عن الأوضاع الصعبة والخطرة التي انزلق إليها لبنان، يمكن القول بأن المعالجة ما زالت ممكنة، بالرغم من إضاعة الوقت الثمين الذي بدده السياسيون في الامعان في خلافاتهم خدمة لمصالحهم الخاصة، والاستمرار في سياسة الانكار والالغاء. نعم اقول وباصرار ووعي بأن المعالجة ما زالت ممكنة مع ضرورة لفت الانتباه إلى التحضير لقبول مستوى محدد من الخسائر، والتي يمكن للبنان الدولة واللبنانيين تحملها.
لكن تتطلب المعالجة الناجعة وجود حكومة منسجمة وقادرة علىاتخاذ القرارات الحازمة، والمنطلقة من وجود رؤية إصلاحية شاملة، ومقبولة من الداخل ومن الخارج.
لا يمكن لرئيس الجمهورية وتياره السياسي الاستئثار بالقرار المسيحي ولا يمكن لرئيس الحكومة المكلف التمترس وراء لجنة رؤساء الحكومات السابقين، أو وراء المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، كما انه لا يمكن للثنائي الشيعي، وتحديداً حزب الله، الاستقواء بقدراته العسكرية وشعبيته ودعم إيران له للاستقواء على الدولة وفرض قراراته عليها، كما انه لا يمكن لكل القوى والأحزاب السياسية الأخرى ان تبقى أسيرة مصالحها ومواقعها في النفوذ، وساعية دائماً لاقتناص الفرص تحقيقاً لهذه المصالح وتدعيماً لهذه المواقع.
فالمطلوب في العملية الإصلاحية الواجب اطلاقها أولاً، قرار واع تتخذه كل القوى السياسية للاقلاع عن سلوكياتها الراهنة والتهيؤ للدخول في مشروع وطني جامع، تضع اسسه هيئة حكماء تتشكل من خبراء في السياسة وفي شؤون الدولة، وفي المالية العامة، وفي الاقتصاد، وفي الشؤون الاجتماعية.
أظهرت تجربة حكومة حسان دياب مدى الفشل الذي واجهته هذه الحكومة، سواء في وضع رؤية إصلاحية، وترجمتها بالتالي إلى برامج صالحة للتنفيذ أو في إدارة شؤون الدولة وتفعيلها وتحصينها، بعد انتشالها من أزمة الفساد المستشري، وانه لمن نافل القول توقع أي حكومة يمكن ان تتشكل ان تمتلك القدرات العقلانية والخبرات المتمرسة والثابتة لوضع رؤية إصلاحية شاملة، ووضع البرامج التنفيذية اللازمة لها.
يمكن ان تتشكل هيئة الحكماء من شخصيات وطنية مشهود لها بقدراتها في الحكم والادارة وريادة الأعمال والهيئات الثقافية والاكاديمية. ولا بأس ان ضمّت رؤساء جمهورية ورؤساء حكومات ووزراء سابقين، وغيرهم من الشخصيات الوطنية صاحبة الكفاءات العالية. تجتمع هيئة الحكماء لتضع رؤية واطارا عاما للعملية الإصلاحية، وتحيل هذا الإطار العام إلى لجان متخصصة في الشؤون المالية والاقتصادية والإدارية، والتشريعية، لتضع كل لجنة البرامج الإصلاحية اللازمة ضمن الاختصاص المنوط بها.
يمكن لهذه المقاربة ان تنتهي بوضع برنامج إصلاحي يُحدّد الأولويات في الخطة الإصلاحية، ومصادر التمويل، والمهل اللازمة للتنفيذ. نحن لا نتحدث من جديد عن خطط إصلاحية سبق للحكومات المتعاقبة ان كلفت شركات متخصصة لوضعها، والتي انتهت جميعها في ادراج الإهمال والنسيان، بل نتحدث عن برنامج وطني جامع وشامل، يلبي الحاجات الإصلاحية التي سبق لاتفاق الطائف ان نص عليها، ولكنها اهملت واسقطت بفعل الزمن واستشراء آفتي المحاصصة والفساد، والتي جرى تعميمها على زمن كل الحكومات والعهود التي تعاقبت خلال فترة ثلاثة عقود.
في رأينا، لم يعد من الجائز الاستمرار في هدر الوقت وتجربة السيناريوهات الواحد تلو الآخر لتشكيل الحكومة العتيدة، في الوقت الذي تستمر فيه المواجهة المحتدمة بين العهد والقوى الداعمة له وبين الرئيس المكلف والأحزاب والتيارات المصطفة وراءه. هذه المعركة المستمرة منذ أشهر تسببت بكلفة عالية على الاقتصاد الوطني وعلى لقمة عيش المواطنين، وهي ان استمرت ستهدد مستقبل أولادهم، كما ستهدد مستقبل وجود الدولة المستقلة صاحبة السيادة. ان استمرار حالة التنافر والتشكيك والتآمر بين القوى السياسية ستؤدي في نهاية المطاف إلى تعميم حالة اليأس والشؤم بين النخب الثقافية والكفاءات المهنية العالية، ودفعها إلى الهجرة، وبالتالي تفريغ البلاد من ثروتها البشرية المنتجة. ستضع هجرة الكفاءات العالية لبنان في صفوف الدول المتخلفة والفقيرة، والتي تفتقد القدرات اللازمة للتصحيح والنهوض من جديد.
تبرز في سياق العمل الاصلاحي ضرورة وضع خطة لمعالجة الفساد من خلال وضع مقاربة عملية تعمل على خطين: الأوّل، الاقتصاص من الفاسدين واسترجاع الاموال المنهوبة. والثاني، تطوير العمل الإداري، بشكل يمنع الاستنسابية أو التلاعب في المعاملات وطرق معالجتها وتسريعها، ويكون ذلك عبر تبسيط المعاملة وتعميم المكننة والمعلوماتية.
في عملية البحث عن الفاسدين والاقتصاص منهم لا بدّ من إنشاء جهاز خاص لهذه الغاية. وان أفضل النظم المطبقة يتمثل بما اعتمدته سنغافورة، حيث تتواجد هيئة لجمع المعلومات عن المشبوهين، ويديرها مدع عام خاص، وهناك هيئة تحقيق خاصة، ومن ثم هناك محكمة خاصة تتمتع بصلاحيات استثنائية.
لكن يبقى من المهم ان لا تخضع هيئة محاربة الفساد لأية فئة سياسية أو طائفة أو حزب وذلك لتحصينها وابعادها عن أية تهمة بالتجني على أشخاص أو فئات محددة.
لم يكن لبنان في الماضي من بين الدول المتخلفة أو الفقيرة، فقد بلغ مستوى المعيشة في لبنان قبل اندلاع الحرب عام 1975 حدود مستوى معيشة المواطن الأوروبي الغربي، وتحديداً المستوى الالماني. كما انه قد نجح في تطوير قطاعه المصرفي والمالي ولدرجة ان كل الدول في المنطقة قد استثمرت فيه أو طلبت الاستفادة من خبراته. وهنا لا بدّ من لفت النظر الى أن القطاع المصرفي المأزوم الآن ليس في وضع الإفلاس، فلديه توظيفات في القطاع الخاص تقارب 45 مليار دولار، ولديه ما يقارب 15 مليار مودعة في مصرف لبنان، والباقي من ارصدته موضوع بشكل سندات واستثمارات مع الدولة، وهي دون شك غير مفلسة، ولكنها متعثرة، ويمكنها من خلال استغلال جيد لموجوداتها وقطاعاتها الانتاجية الوفاء بهذه الديون خلال فترة زمنية معقولة.
ان اعتماد الدولة لخطة إصلاحية شاملة سيفتح الباب خلال فترة زمنية معقولة لاستعادة الثقة المفقودة حالياً بالدولة وبالقطاع المصرفي، وبما يسهّل عمليات الاقتراض والاستثمار والنهوض الوطني من جديد.
لم يكن من الممكن طرح هذا الموضوع بشكل متكامل وستكون لي عودة لاحقة لاستكماله.