الأخبار- علي حيدر
عكست الإجراءات الإسرائيلية مدى تأثير الرسائل التي وجّهتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على جهات القرار السياسي والأمني في تل أبيب، إذ كشفت الاتصالات الإسرائيلية – الأميركية، وعبر القناة المصرية، حجم الاستنفار السياسي الذي واكب تهديدات الفصائل، تفادياً لتجدّد المواجهة العسكرية، التي يبدو من الواضح أنها ستُعمّق المأزق الإسرائيلي الداخلي. وعليه، يمكن القول إن القيادة الاسرائيلية انكوى وعيها بتجربة «سيف القدس»، فاتّخذت الإجراءات التي تُجنّبها الخطأ الذي ارتكبته عشية المعركة، عندما استهانت بتهديدات المقاومة. ولذلك، رفعت مستوى الترتيبات الاحترازية بعناوينها كافة، بما فيها رفع جاهزية بطّاريات «القبّة الحديدية» للاعتراض الصاروخي، وتحويل مسار الرحلات المتوجّهة إلى إسرائيل والمغادرة منها، باتجاه «المسار الشمالي»، تحسّباً لإطلاق الصواريخ من غزة.
مع ذلك، فما تواجهه حكومة العدو برئاسة بينت أبعد مدًى من مسيرة أعلام، بل يشمل جميع الساحات والعديد من العناوين، ويتجاوز في نتائجه ما يتّصل بمستقبل الحكومة واستقرارها، ليطال قدرتها على مواجهة استحقاقات لها صلة مباشرة بالأمن القومي الإسرائيلي. فما بعد معركة «سيف القدس» يختلف عمّا قبلها، وهو من هذه الجهة أكبر من كونه تحدّياً لحكومة برئاسة بينت أو برئاسة نتنياهو، إذ يمسّ الكيان الإسرائيلي بمؤسّساته كافة. وفي هذا الإطار، أكدت الأجواء السياسية والإعلامية والأمنية والاتصالات الإقليمية والأميركية، التي واكبت «مسيرة الأعلام» التي كانت تجري بشكل تقليدي في كلّ سنة، حجم التحوّل الذي أحدثته المعركة الأخيرة في معادلات الصراع على أرض فلسطين. فهي وإن كانت امتداداً لجولات سابقة، إلا أنها شكّلت أيضاً ارتقاءً نوعياً على المستويات العسكرية والسياسية والاستراتيجية. فليس تفصيلاً أن تنتقل المقاومة في غزة إلى مرحلة المبادرة العملياتية ابتداءً، وهو ما تنظر إليه قيادة العدو بخطورة عالية، كونه يمهّد الطريق لتحوّل المقاومة الفلسطينية إلى طرف فاعل في المشهد الإقليمي.
وكما هي الحال في مثل هذه المحطّات التي تنطوي على أبعاد تتّصل بأمنها القومي، عادةَ ما تتعامل إسرائيل معها بعيون المستقبل، فتحاول أن تقطع الطريق على مآلاتها قبل أن تكتمل عناصرها. وفي ما يتعلّق بمعركة «سيف القدس»، تخشى تل أبيب أن يجبرها تطوّر المعادلات والدور والأداء الفلسطينيَّين، بالاستناد إلى نتائج المعركة، على إحداث تغيير في أولوياتها، بعد تعميقه مأزقها الأمني، وتأسيسه لواقع جديد على الساحة الفلسطينية. ويبرز، في هذا السياق، أحد أهمّ تجلّيات المحطّة الأخيرة من الصراع، والذي تَمثّل في العمل على إنتاج معادلة مفادها أن المسّ بالمسجد الأقصى والقدس يساوي حرب إقليمية. وهي معادلة يبدو واضحاً أن المقاومة في فلسطين تمثّل رأس الحربة فيها، في دور طلائعي يمكن لها الاستناد من خلاله إلى عمق عربي وإسلامي يوفّر مظلّة حماية للقدس والأقصى، ويؤسّس لمعادلات جديدة في الصراع مع فلسطين.
في البعد السياسي الداخلي، نجحت حكومة بينت في تجاوز الاختبار الذي دحرجه نتنياهو أمامها، عندما رحَّل «مسيرة الأعلام» إلى البارحة، هادفاً من وراء خطوته تلك إلى وضعها أمام خيارين: إمّا منع المسيرة بما يُظهر تراجع بينت عن هويّته الاستيطانية لمصلحة تربّعه على كرسي رئاسة الحكومة، أو السماح بها بما يؤدي إلى تفجير الحكومة من الداخل أو تفكيكها وإسقاطها كنتيجة لتجدّد المواجهة مع غزة. لكن رهانات نتنياهو فشلت، عندما عمد بينت إلى السير على الحافّة، وسمح للمسيرة بأن تتمّ وفق إيقاع ومسارات حالت دون تفجير الوضع. مع ذلك، لا يزال أمام الحكومة المزيد من التحدّيات التي يراهن نتنياهو على أنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى إسقاطها.
في كلّ الأحوال، الواضح أن إسرائيل، وحكومة بينت تحديداً، مقبلة على محطّات ستتعدّد نتائجها السياسية الداخلية والاستراتيجية. وفي خلال ذلك، سيحاول نتنياهو استغلال كلّ تلك المحطّات من أجل أن يُصوّب على الحكومة ورئيسها. لكن ما هو مؤكد أن إسرائيل أوغلت كثيراً في مرحلة التردّي، الذي باتت معه الاعتبارات الداخلية أكثر حضوراً وتأثيراً في قضايا ذات طابع قومي بالنسبة إلى كيان العدو.