قراءة جديدة حول اتفاق الطائف (الجزء الاول)
كتب د. مارك م. أبو عبدالله الباحث في تاريخ الانتخابات النيابية:
دخلت الحرب اللبنانية بعد ١٤ اذار ١٩٨٩ منعطفًا خطيرًا، وذلك على اثر اعلان رئيس الحكومة العسكرية العماد ميشال عون وبالتوافق الضمني مع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع حربًا كان هدفها الظاهري تحرير لبنان من الاحتلال السوري. وكان لهذا التحول من اثر بالغ على كامل منطقة الشرق الأوسط، نظرًا لما شكّله الانهيار الكامل للدولة اللبنانية ومؤسساتها من خطر وجودي على بقية الدول العربية في المنطقة، أضف الى ذلك، محاولة العراق مدّ نفوذه باتجاه منطقة الساحل الشرقي للمتوسط من خلال دعمه للقوى المسيحية المناوئة لسوريا. بدأ التحضير الجدي لإنهاء الازمة اللبنانية على قاعدة الوفاق، في مؤتمر القمة العربية غير العادي المنعقد لهذه الغاية في الدار البيضاء بين ٢٣ و٢٦ أيار سنة ١٩٨٩. كلّف وزار خارجية كل من المغرب والسعودية والجزائر للإعداد لمؤتمر حوار يجمع النواب اللبنانيين في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية. أن انعقاد المؤتمر كان الإشارة الواضحة الى ان قرار الحل قد اتخذ. وأن الازمة اللبنانية وجب اقفال ملفها.
وضعت نتائج المؤتمر ومقرراته الأسس الرئيسية شبه النهائية للحل المطلوب. وقضت الخطة الموضوعة، وبعد تكليف لجنة ثلاثية مؤلفة من السعودية والمغرب والجزائر، بعقد اجتماع للنواب اللبنانيين لوضع صيغة للوفاق والإصلاحات السياسية. وكلّف المؤتمر الأخضر الابراهيمي التحضير تنفيذ الخطة الموضوعة، إلا ان مهمته لاقت معارضة شديدة من قبل العماد عون، الذي رفض الخطة العربية. في حين اتخذ سمير جعجع موقفًا حياديًا. أما في ما خصّ سوريا، فقد رفضت مقترحات اللجنة الثلاثية خاصة وان التسوية ارتبطت بالانسحاب السوري من لبنان، فما كان من سوريا إلا ان رفعت من وتيرة ضغطها العسكري. ففي ١٠ اب ١٩٨٩ قصفت المدفعية السورية المنطقة الشرقية بشكل لم يسبق له مثيل تمهيدًا لشنّ هجوم من الحزب التقدمي الاشتراكي على جبهة سوق الغرب. لكن الجيش اللبناني تمكّن من صدّ الهجوم. عندها اطلق البابا يوحنا بولس الثاني صرخة استغاثة، واتهم دمشق بانها تريد تدمير بيروت وخاصة الأماكن السكنية التي يقيم فيها المسيحيون. اما الولايات المتحدة فكانت تدين القصف والعنف علنًا لكنها تحاول في السرّ التخفيف من هول الاحداث وتعارض تدويل الازمة اللبنانية ومناقشتها في مجلس الامن الدولي بحجة ان هذه الخطوة تعرقل الحلّ العربي. في المقابل، وبعد اشهر حرب قاسية، ونظرًا لآمال الشعب بالسلام، وتحت الضغط الدبلوماسي القوي من قبل الحكومات المؤيدة لمواقفه، لم يبق امام العماد عون خيار آخر سوى إعطاء النواب الذين أرادوا الذهاب الى الطائف فرصة والاكتفاء بتحذيرهم، لكي يصرّوا على وضع جدول زمني واضح لانسحاب القوات السورية. ولكن النواب بدورهم، وُضعوا ايضًا تحت ضغوط من جانب آخر. فالميليشيات الشيعية أوضحت بأنها لن تتسامح بأية تسوية دستورية، وانها لن تقبل اطلاقًا بأقل من اعتماد الديمقراطية الأكثرية. وكذلك أعلنت مصادر الميليشيات الدرزية بأن الضحايا الكثيرة لم تقدم خلال سنوات عديدة، كي يكتفي في النهاية ببعض التصحيحات في النظام السياسي القديم. وفي مجال آخر، كل من اثار أي تساؤل حول الموقف السوري في لبنان كان عرضة للإنذار والخطر. فالنائب السني عن البقاع، ناظم القادري، اثار مع زملائه مسألة المطالبة بانسحاب السوريين من البقاع، ولكن سرعان ما جرى اغتياله قبل عشرة أيام من انعقاد خلوة النواب في الطائف.
لم تحُل معارضة العماد عون والميلشيات الشيعية والدرزية، كما التصلب السوري دون المباشرة في تنفيذ الخطة. ونجحت في النهاية الجهود العربية والدولية في حمل ٦٢ نائبًا من اصل ٧٣ على السفر في ٢٩ أيلول ١٩٨٩ الى مدينة الطائف السعودية لمناقشة الوثيقة العربية. وقد تغيّب ١١ نائبًا (٨ لأسباب غير سياسية و٣ اعتبروا مقاطعين رافضين هم ريمون اده والبير مخيبر واميل روحانا صقر). بعد الجلسة الافتتاحية بدأ النواب مناقشة مشروع اتفاق الطائف الذي عُرض عليهم. ومن خلال تأييد سعودي واضح عبر تحرك المملكة الدائم بين دمشق وبغداد وبيروت، ودعم أميركي كبير ومباركة دولية للمجتمعين في الطائف، برز شعار “الفشل ممنوع” منذ اليوم الأول للمناقشات. تخلل المؤتمر نقاش حول مواضيع أساسية منها توزيع الصلاحيات ودور المؤسسات وطبيعة النظام الطائفي. واتفق المؤتمرون حول دور رئيس الجمهورية، واعطيت لمجلس الوزراء سلطة كثيرة الأهمية، اما قرارات الحكومة فينبغي ان تؤخذ حسب القانون بالأجماع، وفي حال تعذر ذلك يلجأ الى عملية التصويت. والقرارات ذات الشؤون الهامة تحتاج الى أكثرية ثلثي أعضاء الحكومة. اما في يتعلق بالإصلاحات التي طالت المجلس النيابي، فكان أهمها إقرار المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وتجدر الإشارة الى انه على الرغم من ان قبل مرحلة اتفاق الطائف كان عدد النواب المسيحيين يزيد عن عدد النواب المسلمين وفق قاعدة ٦ نواب للمسيحيين مقابل ٥ للمسيحيين٫ ففي انتخابات ١٩٧٢، ونتيجة للمتغيرات الديموغرافية في اكثر من دائرة انتخابية، نجح المسلمون، الذين كان مخصص لهم ٤٤ نائبًا، في إيصال ٥٢ نائبًا، في حين نجح المسيحيون، الذين كان مخصصًا لهم ٥٥ نائبًا، في إيصال ٤٧ نائبًا فقط. كما تضمن اتفاق الطائف تعديلات أساسية متعلقة بالمجلس النيابي وهي: التعديل الأول طال مدة رئاسة المجلس النيابي التي باتت اربع سنوات، تبدأ وتنتهي مع بداية وانتهاء مدة المجلس النيابي. اما التعديل الثاني، فحدد الحالات التي يمكن للسلطة الإجرائية طلب حلّ مجلس النواب، وحددت بثلاث حالات: عدم الاجتماع، رد الموازنة والإصرار على تعديل الدستور. وفي ما خلا ذلك فلا يُحلّ مجلس النواب.
كما اتفق المؤتمرون على إقرار مشروع اللامركزية الإدارية، والتي تتدرج من انتخاب الهيئات المحلية وانتخاب المسؤولين الإداريين الى انتخاب بعضهم. وأما الصلاحيات فقد تبلغ حد فرض بعض الضرائب والرسوم وانشاء بعض الوحدات العسكرية المتخصصة من حراسات الامن. اعتمد القضاء كوحدة إدارية بدل المحافظة، لأن اعتماد اللامركزية في المحافظة، يقدّم إمكانية تقسيم، بينما هي تنعدم على مستوى القضاء. اما في موضوع الطائفية السياسية، فعلى الرغم من مطالبة النواب زاهر الخطيب وتوفيق عساف اللذين توليا الكلام باسم حركة امل بإلغاء الطائفية السياسية، إلا ان المؤتمرين في الطائف اعادوا تكريس الطائفية من خلال عدم الغاء البنود الدستورية التي تشير اليها، وهي تحديدًا المادة ٩ من الدستور اللبناني والمتعلقة بنظام الأحوال الشخصية، والمادة ١٠ المتعلقة بحقوق الطوائف من جهة انشاء مدارسها الخاصة. إلا ان المؤتمرين اتفقوا على إعادة صياغة المادة ٩٥ من الدستور والتي تتمحور حول توزيع الوظائف على الطوائف والمذاهب. إذ اتفقوا على الغاء التوزيع الطائفي للفئات ما دون الأولى، كما اتفقوا على وضع خطة مرحلية لإلغاء الطائفية السياسية تبدأ فور انتخاب اول مجلس نيابي على أساس المناصفة بين المسحيين والمسلمين. لقي تحفظ رئيس حزب الكتائب تجاوبا من قبل المؤتمرين لجهة الحرص على الوفاق الوطني والتوازن الداخلي. خاصة في المرحلة الانتقالية لإلغاء الطائفية وقبل ان يرافق الغاءها من النصوص الغاؤها من العلاقات الفعلية والنفوذ. وأعاد بالتالي جورج سعادة النقاش حول موضوع الغاء الطائفية السياسية الى مربعه الأول، حيث كان المسيحيون يطالبون بعلمنة شاملة مقابل الغاء الطائفية السياسية.
فيما يختص بالسيطرة الميليشياوية، فقد عولج هذا الموضوع بإجماع من المؤتمرين ومن خلال خطة أمنية، مدتها سنة، هدفها بسط سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية بواسطة قواتها الذاتية، وذلك من خلال حل الميليشيات، تعزيز قوى الامن، تعزيز القوات المسلحة، حل مشكلة المهجرين. اما في موضوع الاحتلالين الإسرائيلي والسوري، فقد كانت اللجنة العربية الثلاثية تعلم ان بند الانسحابات، وخاصة الانسحاب السوري، هو البند المفخخ الذي يهدد بتفجير مؤتمر الطائف برمته وبإعادة النزاع الى نقطة الصفر. في ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي، اتفق المؤتمرون على التمسك باتفاقية الهدنة الموقعة عام ١٩٤٩، وبالشرعية الدولية ومطالبة مجلس الامن بتنفيذ قراره رقم ٤٢٥ والقاضي بالانسحاب الإسرائيلي غير المشروط من جميع الأراضي اللبنانية مع مستلزماته من نشر لقوات الطوارئ الدولية وقوات الجيش اللبناني على طول الحدود المعترف بها دوليًا. كما اتفق المؤتمرون على اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لتحرير جميع الأراضي المحتلة، إلا ان الوثيقة لم تشر بطريقة رسمية الى آليات المقاومة بدقة. أما في موضوع الاحتلال السوري، فقد كان الامر اكثر تعقيدًا، فلم يعط مجال للنواب للتفاوض حول هذه المسألة، بل كان لهم قرار القبول او الرفض لهذا الامر. لأنه ووفق ممثلو اللجنة الثلاثية لم يكن هناك من مجال لإدخال أي تعديلات حول الشق المتعلق بسوريا لأن هذا النص قد جرى بحثه مع دمشق والتفاهم عليه اصبح غير قابل للتبديل، واقصى ما يمكن عمله هو تقديم بعض الإيضاحات او بعض الضمانات. وارتفع صوت العماد عون يهدد النواب بالبقاء حيث هم في حال موافقتهم على الوثيقة.
عندئذ اصرّ النواب المسيحيون، المدعومين من البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، على تحديد شروط للانسحاب السوري، وبنوع خاص جوزيف سكاف، الذي طالب بإصرار شديد بتحسين النص. وكاد الشق المتعلق بالاحتلال السوري ان يهدد الاجتماع برمته، فكبرت وقتذاك المداخلات والضغوط العربية والدولية لأنجاح المؤتمر مهما يكن الثمن ومهما تكن العقبات. وبعد مفاوضات اجراها وزير الخارجية السعودي، سعود الفيصل، ونتيجة لضغوطات بعض الدول العربية الرافضة لاستمرار الاحتلال السوري، قبل حافظ الأسد بإجراء بعض التعديلات على الوثيقة الأساسية ومن بينها شطب عبارة “تقرر الحكومة السورية بالاتفاق مع حكومة الوفاق الوطني” واستبدالها بعبارة “تقرر الحكومتان، الحكومة السورية وحكومة الوفاق الوطني” كما وافق الأسد على إضافة عبارة “بسط سلطة الدولة تدريجيًا بواسطة قواها الذاتية”، وعبارة “في اطار سيادة واستقلال البلدين” في القسم السوري من الاتفاق. وهذا تنازل لا يختلف اطلاقًا عن السخرية والاستهزاء. كما تحدثت الوثيقة عن إعادة تموضع القوات السورية قبل انسحابها من لبنان في فترة زمنية محددة أقصاها سنتان تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية.