كتب المحامي انطوان قاصوف:
كُلّما فَشِلَ رِجَالُ السّياسة وسلاطينُ السّلطَة في قيادة الدّولة ، يُطرحُ السّؤال : ” ما هو الحَل؟” فيأتي الجواب : ” الجيشُ هو الحلّ “!!
فهل هذا الحَلّ ، هو الحلّ؟!
إذا اعتَمَدْنا “الجيش هو الحلّ ” بِصيِغة الجَمْع ،” فهذا يَعني التّخلّي عَنْ أَعْرَق نِظامٍ ديمُقراطي اعتنَقْناه والولوجُ وَلَو مُتأخّرين، ومِنَ الباب الخلفي ، دُنيا الحكُومات العسكريّة” وتَوْزيع العسكريّين على السُّلطة، وهذه الثّقافة، حيث مُورِسَت ، حوَّلَت الأوطان الى مَنافٍ وسُجون وقُبور …!
أمّا إذا كانَ الحلّ بِصيغَة ” المُفرَد “، وهذا يَعني أن يُصبِحَ قائدُ الجَيشِ رئيساً للُجمهوريّة بلباسٍ مَدَنيّ ، فنتذكّرُ الكبير غسّان تويني الذي كان يَتَساءل :” هل جَعَلنا رِئاسة الجُمهوريّة رُتْبَة عسكريّة طبيعيّة تُمْنَح لكلّ قائدٍ للجيش عند بُلوغِهِ سنّ التقاعد …”؟!
تُرى هل هذه التّجرِبَة نَجَحَت حتى نَعْتَمِدَها ونُكَرِّرَها؟! الجواب نَجَحت مع ” لواء ” ولكنّها لم تنجحْ مع أي عِماد!
ثلاثة عهود مع ثلاثة ” عُمُد”…!
العماد الأوّل، في ظِلّ الوِصاية ، والشّعارُ الشّهير : ” شَرْعي، ضَروري، مُؤقت…”” مُدّدت ولايَتُه الى نِصفِ وِلاية جَديدة ، فانتهى العهدُ بالإنفجار الكَبير والإنحدارِ الخَطير… ولا تَسليم ولا تسلُّم؟!
العِمادُ الثّاني ، رافقَتْهُ ثُلاثيّة “حديديّة ” مَطلِيَّةٌ “بالذَّهَب” : ” الشّعب- الجيش- المُقاومة…” حاوِلِ العهدُ ” النأي بالنَّفْس”، فَوَصَفوا لهُ ” غَلْيَّ” الورقة وشُرْبِ “مَحْلُولِها” علاجاً للّروماتيزم…! إنتهى العهدُ فَنالَ “التّعطيلُ” نِصْفَ ولاية تقريباً… ولا تَسَلُّمَ ولا تَسْليم…!
أمّا العِمادُ الثّالِث، فهو صاحِبُ ” العهد القويّ ” والمُلَقّب ب ” بيّ الكلّ ” وإن لم يَعتَرِف الاّ بوريثٍ واحد…عانَدَتُه الظّروف فأصاب. َ” اولاده” بخيبة الأمِل، فتغيّر مسارُهُم من طريقِ الجنّة الى نار جهنّم …والآتي : ” عونَك جايي من الله…! ”
ثلاثَةُ عُهودٍ نَصيبُها مِن الفشَل أكبرُ مِن نصيبِها من النّجاح ولذلك لا يُمكِنُ أن تكونَ “المَثَلَ والمِثال” لكلِّ رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة وخاصةً للذّين ينتقلونَ مِن قِيادة الجَيش الى رئاسة الجمهوريّة…!
يبقى عهدُ ” الّلواء “؟!
كَثيرون أرّخوا حياة َالأمير والقائد والرّئيس ، وكان الصّحافي نقولا ناصيف أهمّهم… وقد كَتب في إهدائِه لي يومَ توَقيعِ كتابِهِ ” جُمهوريّة فؤاد شهاب ” : ” معَ تقديري، عَسى في هذه الصّفحات ما يَستعيدُ هَيبة رئيس و دولة …”
مع هذا الكتاب ، عاشَت ذاكرَتي مِن جديد، وانْتَعَشَت ذكرياتي مُجدّداً واسْتَعَدتُ معلوماتي مُؤخراً، مع الرَّجُل الذي أحببته وقدّرته واحترمته، أميراً في الإمارة ، قائداً في الجيش ورئيساً للجمهوريّة…!
السيّد العماد ، هل انت الرئيسُ المُنتظَر؟
إنّ مَن يَقرأ ويُحلّل سِيرة حياة اللّواء الأمير فؤاد شهاب ، قائداً للجيش ورئيساً للجمهوريّة، من المؤكد انّه سيعرف من أين يبدأ وكيف يمضي … حتى يَنجح؟!
فؤاد شهاب أوّلُ قائدٍ للجيش، يُعيّنُ رئيساً لحكومة انتقاليّة ، بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري ، دامت اثني عشَر يوماً ، فلا تقوده – كغيره – أحلامُه وأطماعُه الى التمسّك بالسُّلطة.
فؤاد شهاب أوّلُ قائدٍ للجيش، يُنتخب رئيساً للجمهوريّة ، فيخلعُ بذلته العسكريّة ولا يُعَلِّقُها فقط…!
فؤاد شهاب أوّلُ رئيسٍ للجمهوريّة، يستقيلُ بعد مرورِ سنتين على ولايته الأصليّة… ثمّ يعودُ مُلَبياً نِداء الشّعب والزُّعماء بعد ان أحرقَ النُّواب كتابَ الإستقالة بنار الشّموعِ، وحَمَلوه على الأكتاف ، هم الذين تعوّدوا أن تحمِلَهُم شعُوبهم على اكتافها .. ولكنّه لم يوافق لاحقاً على إعادة إنتخابه بعد انتهاء ولاية الرئيس شارل حلو…!
فؤاد شهاب ابى ان يُعطيَ لنفسِه ما لم يُجِزْهُ الكتاب ( الدستور ) والقانونُ عنده اساس الحكم وكان يؤكّد بأنّ أيّ حاكمٍ لا يستطيعُ ان يجعَلَ إرادَته بديلاً من القانون ورغبته بدلاً من العدالة …!
فؤاد شهاب ، الرّئيس الوحيد الذي سَلّمَ الرّئيس المُنتخب دولةً لا تحملُ وِزْرَ أزمةِ وطنيّة ولا كياناً مُهدَّداً ولا جيشاً يُخشى عليه ولا ثورة شعبيّة …!!
فؤاد شهاب أوّلُ رئيسٍ للجمهوريّة، يخرجُ من الرّئاسة الى العزلة، فلا تُلاحقُهُ ولو شُبهة فساد أو رشوة أو كَسْب غير مشروع…عاش مُكتفياً … ومات فقيراً…!!!
فؤاد شهاب باني دولة المؤسّسات، عَمَدَ منذ بداية عهدِه الى إصلاحٍ إداريّ ليقود لبنان الى المستقبل ، فكانت أفكاره إصلاحيّة مُتجدّدة ، مُشبعة بروح العدالة الإجتماعيّة… بحيث نّقَلَنا من دولة فيها آثار حضاريّةٍ من زمن الإنتداب الى دولة عصريّة، وتنشيطاً لذاكرة المسؤولين والمواطنين نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
مصلحةُ الإنعاش الاجتماعي ، قانون الضمان الإجتماعي ، مجلس الخدمة المدنيّة ، التّفتيش المركزي ، قانون النَقد والتّسليف، إنشاء مصرف لبنان المركزي وتدشين بنائه ، تنظيم عمل الأجانب في لبنان ، إنشاء تعاونيّة موظّفي الدّولة، إنشاء كلّية الحقوق في الجامعة الّلبنانيّة، صدور قانون الارث لغير المُحمّديّين، إعادة تنظيم مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة ومعهد الدّروس القضائيّة والمحاكم الشّرعيّة…! باختصار بنى كلّ دولة المؤسّسات…!
فؤاد شهاب رمز السّيادة!
إنّه “السّيد السياديّ ” السّاعي ابداً الى” سيادة ” الدّولة !!
— يروي السيّد جوزف دوناتو أنّ الرّئيس فؤاد شهاب رغب بتعيينه في منصب رئيس مصلحة الإنعاش الإجتماعي ، فقيلَ للرّئيس في مجلس الوزراء، إنّ الاسم الذي تُرَشّحُهُ ” لاتيني” والمنصب هو للموارنة، فردّ الرّئيس : ” الآن جعلته مارونيّاً ”
وكانت هذه المصلحة، تهدف الى أن تبلغَ خدماتُها القرى والبلدات النائية من شِبعا في الجنوب الى جرود الهرمل في البقاع ، الى جرود عكار في الشمال بُغيةَ إخراجِها من حِرمانِها وتخلُّفِها وطَي صفحة الماضي من النّزاع بينَ العَشائر والسُّلطة والإحتكام الى القانون لا الى السّلاح، وفي إشارة رمزيّة يقول جوزف دوناتو…
وأثناءَ وضْعِ الحَجَرِ الأساس للمركز الصّحي في وادي خالد ، طُمِرَ مُسدّسٌ تحت حجر الأساس… وهكذا ارتَفَعَ المركزُ فوق المُسدّسِ المَطمور …!
في عهدِه ، كان مخفرٌ صغيرٌ من الدّرَك، يُديرُ مُخيّماً فلسطينيّاً ” بأمّه وأبيه ” ومَن لا يذكُر زيارات ياسر عرفات الى نَظَارة ثكنة الحلو…” بعده جاء مَنْ قَوّضَ الإستخبارات العسكريّة بإسم استرجاع ديمقراطيّةٍ قيلَ أنّها كانت مفقودة فَخَسِرَ الإثنتين…” والدّليل كيف أصبح مثلاُ ابوعمّار لاحِقاً، حاكماً ، لمدّة خمسة عشر عاماً على لبنان بحسب زعمه..!
— كان المارِدُ الأسمَر ، الرّئيس جمال عبد النّاصر، إذا أطلّ على الجماهير من المُحيط الى الخليج و أوْمَأ بيدِه اليُمنى ، تمايَلَت الشُّعوب يُمْنَةً كموجِ البحر، وإذا عاد وأومأ بِيُسْراه، هدَرَت الجموعُ رُجوعاً… ألَمْ يفرِض الرّئيس فؤاد شهاب ، عّقْدَ اجتماعِ معه في خيمةٍ ” يُروى أنّ فِرقةً من المَّسّاحين التّابعين لمصلحة الشّؤون الجغرافيّة في الجيش اللّبناني ، رَسَمَت موقعها : نصفُها على الأراضي الّلبنانيّة ونصفها على الأراضي السّوريّة، وُضِعَ كُرسيّ جمال عبد النّاصر في الأراضي السّوريّة ، وكُرسي فؤاد شهاب في الأراضي اللّبنانيّة، أمّا الطّاولة فمُدّت على مساحة مترين مُناصّفَةً من حُدودِ البلدين معاً في منطقة عُرِفَت بوادي الحرير (أَمَلُنا الاّ يكون هذا الموقع التّاريخي ورغم رمزيَّتِهِ، قد أصبحَ في هذه الأيّام ، مَعبراً غير شرعيّ للهُروب وللتّهريب …؟! )
ردّاً على اعتراض البعض، قال عبد النّاصر عن الموقع وخيمة الإجتماع : “ما يُريدُه الرّئيس شهاب ، أنا جاهز للقيام به، كلّ ما يريدُه ويُطَمْئِنُهُ سأنفّذُهُ لهُ…” وذلك تأكيداً لنظريّة عبد النّاصر القائلة :” ارفعوا أيديكُم عن لبنان …”
— كان الرّئيس فؤاد شهاب على خلاف مع سيّد بكركي، فتدخّل الرّئيس سامي الصّلح والشّيخ بيار الجميّل لِمُصالَحَتِهِما ، فلم يُمانِع قائلاً :”إذهبا إليه، وإذا تبيّنَ انَ الحقّ معهُ،أصعدُ الى بكركي حافياً وأُقبّلُ يّدَهُ وأعتذِرُ منهُ ، أمّا إذا تبيّن العكس فليسامِحهُ اللّه” ذهب الرّجُلان الى البطريرك بولس المعوشي الذي استمهل ثلاثة ايّام قبل أن يقول :أنا ساذهبُ لزيارة الجنرال … ” ومن سُخرية القدَر أنّ الأمير توفّي فجأة في اليوم الثّالث، فكان البطريرك أوّل الواصلين الى منزله برفقة المطران انطوان خريش ، فَصلّى للجسَد الصّامِت واصفاً الجنرال الرّئيس بأنّه “الصّامت الأكبر” فتحوّلَت هذه الصّفة الى كلّ الجيش …!!
وكذلِك عندما وصَل الرّئيس رشيد كرامي، إنحنى فوق الجسَدِ البّارِد المُسجّى وقبَّل جبينَه – بينما اليوم نرى رئيسين لا يلتقيان ولا يُسَلّمُ أحدُهُما على الآخر ولا حتى يتكلَّمان ولو هاتفيّاً في عِزِّ مأساةِ لبنان واللبنانيّين، وهَل نَنْسى الحكومة الرُّباعيّة التي كانت برئاسة رشيد كرامي : مارونيّان وسنّيان ، ورغم ذلك اعتبرها الجميع حكومة وحدة وطنيّة وكانت أكثر إنتاجاً وفعاليّة حتى من أكبر حكومات اليوم ،للعَظَمَة رِجالُها وللمقامات قاماتًها! في حين ركع الياس سركيس ( الرّئيس اللاحِق) وقبّلَ يد الرّئيس الرّاحِل : للوفاء عنوان…!
فؤاد شهاب في مَماتِه كما في حياتِه ، كان وظلَّ موضِع احترام وتقدير الجميع وبقي في ضميرِ الوطَن ، كما قالَ فؤاد بطرس :” شخصيّة تميّزت بالنّبلِ واحتِقارِ الإغراءات والتّرفُّع عن المَصْلَحة الخاّصة ومُساءلة النّفس باستمرار ومُحاسبتها دون مُراعاة ، وهو ما قلّ مثيلُه في الطّبقة السياسيّة اللّبنانية على مدى كلّ العصور، أقولُ ذلك بكلّ أسى ومَرارة…”!
وهل تَسْأل أيّها الرئيسُ المُنتظَر من أينَ تبدأ؟
ألم يتراءى لك تاريخُ هذا الرّئيس وأنتَ تتفقّدُ كليّة فؤاد شهاب للقيادة والأركان “؟
ورغم أنّ كلّ ما فيك يكفيك
فمع فؤاد شهاب نُتابع ولا نبدأ، من إصلاح إداري الى إصلاح سياسي الى إصلاح دستوري، نتعلّم من أسلوب حكمه، سواء من أجل ان نحكم ، أو من أجل أن نُغادر بدون ضوضاء مع تسليم وتسلّم …
فؤاد شهاب، صحيح، أنّه شخصيّة لا ولن تتكرّر، ولكنّ أسلوبه في بناء الدّولة ومبادئه التي اعتمدها حمايةً للوطن وقِيَمَهُ الإنسانيّة والسياسيّة قابلة للتّكرار على مدى كلّ العهود …!
في الماضي ، قال بيار مندس فرنس: “إنّ الحُكمَ يعني أن تختار …” وجاءَ الحاضِر يقولُ بلِسانِ الواقِع: ” إنّ الحُكمَ يعني أن تعرف…” وقد أضافَت حِكمة الأيّام الى الإختيار والمعرفة فلسفةُ الرّغبة والقُّدرة…
فماذا لو اجتمَعت كلُّ هذه الحقائق وكانت صفات مُمَيّزة لرئيسٍ مُمَيّز ؟!
إنّ الحاكمَ يستطيعُ الإستمرار إذا عاقبَ كلَّ من لا يجرؤ على مُفاتحته بالحقيقة .
والحقيقةُ تستطيعُ أن تُسقط الحاكم إذا لم يجرؤ أحدٌ على مُصارحته بها .
الحاكمُ يستمِرُّ مع الحقيقة أو تُسقطهُ الحقيقة …!