مهدي عقيل
بُعيد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، طُرحت أسئلة كثيرة حول علاقة حركة “حماس” بالمحور الممتد من بيروت إلى طهران مروراً بدمشق. في نهاية السبعينيات الماضية ومطلع الثمانينيات التي تلتها، بدأت تطرح أسئلة جدية في صفوف حركة الإخوان المسلمين الفلسطينية حيال قضايا فلسطين والكفاح المسلح، وعندما جُوبهت الأسئلة الفردية بالصد، تبلور حراك شبابي تدريجياً تقدمه فتحي الشقاقي إتخذ مساراً جديداً سرعان ما تبلور تحت راية “حركة الجهاد الإسلامي” في الساحة الإسلامية الفلسطينية، وراح يجتذب بالمفرق من الإخوان وفتح وتنظيمات فلسطينية أخرى. في العام 1987، إندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكانت في صلب التأسيس لها وفي إطلاق شرارتها مجموعات فلسطينية مؤمنة بخيار المقاومة. وجدت جماعة الإخوان المسلمين نفسها مضطرة لمسايرة الواقع الفلسطيني الآخذ بالتطور والتبلور، فكان قرار ولادة حركة “حماس” اختصاراً لـ”حركة المقاومة الإسلامية”، وكانت وظيفتها تأطير محموعات شبابية منضوية تحت لواء “المرابطون على أرض الإسراء” خاصة، والتيار الإسلامي عامة، بقيادة الشيخ أحمد ياسين، الأمر الذي حال دون سحب البساط من تحت أقدام الحالة الإسلامية التي كانت لها إمتدادات حتى داخل حركة فتح بزعامة ياسر عرفات. برغم حماسة منظمة التحرير بكل فصائلها للثورة الإيرانية التي قادها الإمام الخميني، إلا أن إندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية عام 1980، دقّ الإسفين الأول في العلاقة بين الثورة الإيرانية الوليدة ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن ذلك لم يجعل إيران تحيد عن رؤيتها للقضية الفلسطينية. عملياً، صاغت إيران علاقة ثابتة مع “حركة الجهاد الإسلامي” منذ اليوم الأول لإنتصار ثورتها، وعندما إنطلقت “حماس” في النصف الثاني من الثمانينيات الماضية، تعاملت معها إيران ببراغماتيتها المعهودة، وهي علاقة راحت تتطور تدريجياً، لا سيما في بداية تسعينيات القرن الماضي، بعد إبعاد قيادات “حماس” و”الجهاد الإسلامي” إلى مرج الزهور في منطقة الجنوب اللبناني. لحظة الإبعاد يصح القول فيها إنها شكّلت “فرصة تاريخية” كما تُردد قيادات حمساوية، إذ أنها أتاحت لها فرصة التواصل المباشر للحركة مع إيران وحزب الله. ومع تولي اللواء قاسم سليماني قيادة فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في نهاية التسعينيات الماضية، حصلت نقلة في مستويات التنسيق والتعاون بين حركة “حماس” وطهران. قرر الإيرانيون مد الحركة بأسباب القوة في مواجهة العدو الإسرائيلي، خصوصاً إثر عام 2005 وحصار غزة المستمر لتاريخه. كان سليماني يعبّر في أدائه عن نظرة القيادة الإيرانية الإستراتيجية للعلاقة مع “حماس”، وهو مسار ظل ثابتاً، برغم الإنتكاسة التي أصابت هذه العلاقة في العام 2011، غداة إندلاع الأزمة السورية أو ما يسمى “الربيع العربي”. لم تنسحب البراغماتية الإيرانية في التعامل مع “حماس” كما مع غيرها من الفصائل الفلسطينية، على القيادة السورية، في ضوء مجريات ما بعد العام 2012. بدا أن الأمور تحتاج إلى الوقت وإلى تراكم عناصر الثقة بين الجانبين حصلت طلعات ونزلات عديدة في مسار علاقة “حماس” سياسياً بكل المحور الذي كانت وما تزال تنتمي إليه، إلا أن ذلك لم يحجب خصوصية العلاقة مع “كتائب القسام” الذراع العسكرية المقاومة للحركة، بحيث بقيت ثابتة ولم تتأثر برؤية بعض الرموز القيادية في “حماس” وعلى رأسهم القيادي خالد مشعل. التورط “الحمساوي” في وحول الأزمة السورية جعل الحركة أسيرة تناقضات إقليمية؛ فمن جهة، علاقة وثيقة بقطر التي تقيم علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، وعلاقات أوثق مع تركيا، العضو في حلف شمالي الأطلسي، والتي تربطها علاقات دبلوماسية مع الكيان الإسرائيلي، منذ اليوم الأول لقيام هذا الكيان غصباً واحتلالاً لأرض فلسطين عام 1948. ومن جهة أخرى، تتلقى “كتائب القسام” الدعم العسكري من طهران، ولا سيما كل ما يُعزّز خيارها الصاروخي، سواء ما تم إستخدامه حتى الآن في كل حروب غزة، أو ما بقي في خانة المفاجآت، في إنتظار أي مواجهة عسكرية جديدة. لم تنسحب البراغماتية الإيرانية في التعامل مع “حماس” كما مع غيرها من الفصائل الفلسطينية، على القيادة السورية، في ضوء مجريات ما بعد العام 2012. بدا أن الأمور تحتاج إلى الوقت وإلى تراكم عناصر الثقة بين الجانبين. لماذا؟ منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبرغم حساسيتها التاريخية من الإخوان السوريين، فتحت القيادة السورية في زمن حافظ الأسد أبواب دمشق أمام قيادات وكوادر “حماس”، غير أن قيادة الصف الأول في الحركة إنتقلت رسمياً إلى دمشق في العام 1999 بعد تركها الأراضي الأردنية قسراً. تحملت القيادة السورية أوزار هذا الإيواء السياسي وعندما أتى وزير الخارجية الأميركي كولن باول إلى دمشق غداة الإحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، مُطالباً برأس “حماس”، تجرأت دمشق على قول “لا” وتحملت أوزار إحتضانها السياسي لحركات المقاومة الفلسطينية، لا بل ذهبت أبعد من ذلك عندما سمحت لضيوفها بإستثمار كل منظومة علاقات سوريا الإقليمية والدولية. لذلك، لم يكن سهلاً على بشار الأسد أن يُبرّر حسابات قيادة سياسية “حمساوية” أطاحت فجأة، ولحسابات سلطوية بحتة، برصيد دفعت دمشق كلفته حصاراً وعقوبات، حتى لحظة باتت الولايات المتحدة دولة جوار لسوريا مع الإحتلال الأميركي للعراق قبل 18 سنة. لم تتوقف محاولات رأب الصدع بين الجانبين، ولم يكن خافياً دور حزب الله التوفيقي. في الآونة الأخيرة، تكثفت وتيرة الاتصالات على خط عودة قيادة “حماس” إلى دمشق، بعد أن أظهرت معركة “سيف القدس” أن علاقة الحركة بـ”المحور” هي علاقة إستراتيجية للطرفين. كل الدول العربية ومعها تركيا لا يمكن أن تقدم لـ”حماس” ما يمكن أن توفره دول وقوى “المحور” من دعم سياسي وعسكري للحركة، علماً أن تقديمات بعض الدول، عربية أم إسلامية كانت، محصورة بالإنماء والرواتب والمساعدات الحياتية والإنسانية. بالمقابل، وفّر الإيرانيون والسوريون وحزب الله لحركة “حماس” معسكرات تدريب ومسارب معقدة لوصول الأسلحة والمعدات والتقنيات العسكرية، براً وبحراً. غير أن الأهم هو طبيعة العلاقة السياسية بين أهل المحور نفسه، ولو أنها شهدت إنتكاسات إن دلّت في مرحلة من المراحل على شيء، إنما على وجود عقل تكفيري في الحركة، بدليل ما حصل في أعقاب حرب غزة عام 2014، عندما رفضت قيادة “حماس” السياسية في الخارج توجيه كلمة شكر واحدة للإيرانيين بعد إنتهاء المعركة. وقتذاك، كان هناك عدم تكامل بين القيادة السياسية ـ بكل حساباتها الإقليمية ولا سيما الإخوانية ـ وبين القيادة العسكرية في غزة التي تميّزت تاريخياً بتماهيها إلى حد كبير مع طهران وحلفائها. هكذا نقلة نوعية في الخطاب “الحمساوي” ستجد صداها في بيروت ودمشق وطهران.. والأهم أن تجذب الحركة من تشاء في كل هذا الفضاء العربي والإسلامي إلى خطاب فلسطين من البحر إلى النهر، لا أن يُصار إلى جذبها إلى إغراء السلطة كيفما كان وبأي عنوان كان! في حرب غزة الأخيرة، نجح يحيى السنوار قائد حركة “حماس” السياسي والعسكري في غزة في صياغة توليفة تكامل فيها المعطى الميداني مع المعطى السياسي. كان من الصعب إملاء وقف النار على القيادة العسكرية والسياسية في القطاع، بل على العكس، فإن القيادة السياسية، بشقيها الداخلي والخارجي، تماهت مع معطيات الميدان الفلسطيني، ولذلك، لم يجد السنوار حرجاً هذه المرة في أن يخص إيران وكل قوى “المحور” بتحية شكر، بينما كان الجناح السياسي “الحمساوي”، قبل سبع سنوات ينتقي كلماته بدقة عندما يتناول الجمهورية الإسلامية ويتفادى شكرها، خشية إزعاج “إخوانه” في المنطقة. إقرأ على موقع 180 قضية السد الأثيوبي.. محاذير العمل العسكري ونتائجه وإثر انتهاء معركة “سيف القدس” وتزامنها مع عيد التحرير، تقاطع أو تطابق خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله وخطاب يحيى السنوار، وهما أرسيا دعائم معادلة جديدة، عندما قال نصرالله إن المس بالمسجد الأقصى والمقدسات “لن يقف عند حدود مقاومة غزة، والمعادلة التي يجب أن نصل اليها هي التالية: القدس مقابل حرب إقليمية”، وقابله السنوار بكلام مشابه في مؤتمره الصحافي الأول بقوله إن “حرباً إقليمية ستحصل إذا حدث أيّ مساس بالمقدّسات”. كان لافتاً للإنتباه أن السنوار إستعان بقاموس حزب الله السياسي من لحظة تحرير الجنوب اللبناني (2000) وحتى لحظة أيار/ مايو 2021، فقال إن الإحتلال أوهن بآلاف المرات من بيت العنكبوت، وأن الحرب المقبلة ستغير شكل الشرق الأوسط.. وهذه التعبيرات سبق وأن إستخدمها السيد نصرالله في مناسبات سابقة ولو بمفردات مختلفة إلى حد ما. تحية “حماس” إلى إيران وحزب الله، غطت عليها تحية الحركة بلسان القيادي البارز اسامة حمدان إلى سوريا ورئيسها بشار الأسد. ردُّ التحية بمثلها، جاء غداة إجتماع الرئيس السوري بالفصائل الفلسطينية في دمشق وأكد خلاله أن أبواب دمشق كانت وستبقى مفتوحة أمام جميع المقاومين الفلسطينيين، وخص “كتائب القسام” بالتحية، علماً أن تجربة إجتماع ممثل حركة “حماس” في صنعاء بأحد قادة الحوثيين مؤخراً سرعان ما تنصلت منه الحركة ووضعته في خانة “الموقف الشخصي” الذي لا يُعبّر بأي حال من الأحوال عن موقفها! بكل الأحوال، فُتحت الأبواب لإستئناف العلاقات مستقبلاً بين “حماس” ودمشق، نظراً لأهمية حركة “حماس” لـ”المحور” من ناحيتين رئيستين؛ الأولى؛ يحتاج “المحور” إلى فصيل مقاوم سني بحجم “حماس” لتخفيف صبغته المذهبية، فـ”حركة الجهاد الإسلامي” على أهمية دورها وعلاقتها القديمة والوثيقة بـ”المحور”، إلا أنها لا تستطيع أن تحل محل “حماس” التي أمست مرجعية رئيسية في فلسطين المحتلة وربما الأولى بعد معركة “سيف القدس” أو معركة ترابط الساحات “غزة – الضفة – القدس”. الثانية؛ وجود فصيل داخل فلسطين بكل هذا الاقتدار والقوة (إلى جانب “حركة الجهاد”) على غرار حزب الله في لبنان، هو أمر استراتيجي وجيوسياسي بامتياز. قَدَرُ حركة “حماس” أن تكون مع إيران والدول العربية وتركيا في آن معاً. هي تحتاج للسلاح الإيراني والمال العربي والحضانة التركية في ظل الحصار المفروض على غزة وضيق سبل العيش فيه. الحرب الأخيرة ونتائجها الاستثنائية وقلب قواعد الردع والاشتباك داخل فلسطين المحتلة على الأقل، يتطلب من قادة “حماس” صياغة رؤية تُعيد تثبيت خروج الحركة من “غزاويتها” إلى رحاب فلسطين التاريخية، وعندها بمقدورها أن تفرض الشرعية التي تسعى إليها بإعادة إنتاج بديل فلسطيني مقاوم، سواء أكان إسمه منظمة التحرير أو اي إطار فلسطيني قادر على إعادة الإعتبار إلى الخطاب الفلسطيني المقاوم بوصفه خطاباً جامعاً. حتماً هكذا نقلة نوعية في الخطاب “الحمساوي” ستجد صداها في بيروت ودمشق وطهران.. والأهم أن تجذب الحركة من تشاء في كل هذا الفضاء العربي والإسلامي إلى خطاب فلسطين من البحر إلى النهر، لا أن يُصار إلى جذبها إلى إغراء السلطة كيفما كان وبأي عنوان كان!