سليم الأسمر
أن يُعلن سعد الحريري “التكامل” مع نبيه بري ويقول “سعد الحريري يعني نبيه بري ونبيه بري يعني سعد الحريري” فهذا يشتق وجهة جديدة في الصراع السياسي اللبناني: إصطفاف إسلامي يرأب الصدع السُني ـ الشيعي الذي استطال زمناً، مقابل إصطفاف مسيحي يُنعشه ويغذيه جبران باسيل بدعوى “حقوق المسيحيين”! هذا الإصطفاف المتبادل لم يكن بارداً في الأصل. حرارته ارتفعت عشية تأجيج سعد الحريري مسألة “إعتذاره” عن تشكيل الحكومة بسبب ما يسميه “تجاوز” رئاسة الجمهورية لنص الدستور بتحفيز وإدارة جبران باسيل. وهذا يعيد البلد إلى بداية التسعينيات الماضية وما يسمى “زمن الإحباط المسيحي”. آنذاك، اعتبرت “المسيحية السياسية” أن اتفاق الطائف انتزع منها صلاحيات وأعطاها للفريق الإسلامي وتحديداً السُني منه. هذا النقاش انتعش من جديد في ظل مكاسرة تطال في الظاهر والمضمون إدارة البلد راهناً ومستقبلاً وكذلك تجديد بطاقة تعريفه في لحظة سياسية غير مسبوقة لجهة التسويات التي تنعقد على مساحة المنطقة كلها. بعد تحركات البطريرك الماروني الكاردينال بشارة بطرس الراعي باتجاه بعبدا وما تردد عن ترشيحه قبل ذلك “وزيراً ملكاً” من بلدته حملايا، ثم عن إناطة تسمية الوزيرين المسيحيين به قبل أن ينفي ذلك وظهوره بمظهر المنتصر لـ”حقوق مسيحية” محاولاً إمساك العصا من الوسط، على شاكلة عظة الأحد الأخيرة حمالة الأوجه العديدة، يقابله على الضفة الأخرى إجتماع المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، فهذا يعني أن الوجهة التي نحن بصددها هي وجهة إصطفاف مسيحي ـ إسلامي يمكن برهنته بالعديد من الدلالات. يقول ذلك ويُثَبتهُ رد “مصادر حركة أمل” على باسيل قبل اجتماع المجلس الشرعي الإسلامي وبيانه، ثم توضيح مفتي بعلبك ـ الهرمل الشيخ خالد الصلح وإعلانه امس (الأحد) حرفياً “أن دار الفتوى كما بكركي.. وليس من المقبول التعامل مع كرسي رئاسة الحكومة ومع السُنة في لبنان حسب القطعة، فكما لبكركي وما تمثل الحق في تحديد مرشحين لرئاسة الجمهورية ووضع خطوط حمر على كرسي الرئاسة والتدخل في تأليف الحكومة وآخر طرحها لحكومة أقطاب يحق للرئيس المُكلف وضع سماحة المُفتي والمجلس الشرعي في جو التأليف وعقباته”. هذا الإصطفاف الإسلامي المسيحي سيزداد يوماً بعد يوم مع إقتراب موسم الإنتخابات النيابية: الحريري سيحشد ضد ثنائي جعجع ـ باسيل. بري سيقتدي به أقله ضد باسيل ولا مساحة مشتركة إنتخابياً بينه وبين جعجع. وفي مثل هكذا لوحة يصبح السؤال أين سيقف جنبلاط من خلاف الحريري مع كل من باسيل وجعجع واقعياً، يسير البلد بخطى حثيثة إلى الإشتباك المسيحي ـ الإسلامي. لكن، في الأثناء، يجري نزع كل فتائل الإشتباك السني ـ الشيعي من جانب الحريري وبري من خلال تحالفهما العميق والقديم. أي أن كل رهانات جبران باسيل منذ 2008 تذهب هباءً منثوراً. طبعاً رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع سيلتزم الصمت كما هي عادته في اللحظات الحساسة، فهو على خصومة مع الحريري وعلى توافق مع طرح “حقوق المسيحيين” الذي يرفعه “العهد القوي”، لكأنه يريد إصطفافاً مسيحياً بوجه حزب الله (الشيعة) أولاً، لكن باسيل أربك حساباته. ما يستدعي التنبه هو أن هذا الإصطفاف الإسلامي المسيحي سيزداد يوماً بعد يوم مع إقتراب موسم الإنتخابات النيابية: الحريري سيحشد ضد ثنائي جعجع ـ باسيل. بري سيقتدي به أقله ضد باسيل ولا مساحة مشتركة إنتخابياً بين رئيس حركة أمل وبين جعجع. في مثل هكذا لوحة يصبح السؤال أين سيقف وليد جنبلاط من خلاف الحريري مع كل من باسيل وجعجع؟ حتماً يبدو أن الزعيم الدرزي هو الأكثر إحراجا بسبب وضعية الجبل، درزياً ومسيحياً؟ هكذا، فإنه على الطريق المُفضي إلى سقوط لبنان “الدولة” و”النظام”، يتبدى عنصر جديد ـ قديم يشتق السياسة من الطائفية ويُسرّع الإقتراب من النهايات: استظلال العمائم والقلنسوات. هذا ما يفعله رئيس تيار المستقبل، وهو نفسه ما يفعله رئيس التيار الوطني الحر. فالرجلان على إختلاف موقعيهما يأكلان من صحن السياسة نفسه، أي إستدعاء طوائفهما. الإثنان تراجعا شعبياً، برغم مكابرتهما أو قولهما عكس ذلك. كذلك وضعيتهما الوطنية بالغة السوء، ولا يملكان غير سلاح الإستنفار الطائفي الذي يتيح لهما البقاء على قيد الحياة السياسية. العودة إلى المربعات الطائفية عند كل استحقاق سياسي أو دستوري هو من طبيعة النظام السياسي اللبناني: إجتماع القادة المسيحيين في بكركي كان مُقررِاً ومُقيّداً لمن يحق له الترشح لرئاسة الجمهورية. الآن يفعل المجلس الشرعي الفعل نفسه في ما خص الرئاسة الثالثة وصلاحياتها. مشكلة “المسيحية السياسية” أنها ترى إلى الطائف خصماً انتزع أنيابها. بالمقابل، مشكلة “السنية السياسية”، أنها تدافع عن “حصتها” في الطائف وليس عنه ككلٍ دستوري حمل مقدمة إصلاحية عالجت إختلالات الجمهورية الأولى بمئات آلاف الضحايا بين قتيل وجريح ومُعوًق ومفقود، ناهيك عن جيوش من المهجرين والمهاجرين. في ظل هذه اللوحة، تتكاثر الشكاوى المقدمة إلى اللبنانيين من أطراف الإصطفاف على بعضها وضد بعضها. نبيه بري لم يكن يريد “العهد العوني” من الأساس وحذر من أن إنتخاب ميشال عون يعني التصويت لرئيسين هما ميشال عون وصهره جبران باسيل. الأخير ردّ لاحقاً بـ”تكسير الرؤوس” و”خطاب البلطجة” وتصدى على الدوام لكل مبادرات رئيس حركة أمل وحراكه السياسي كي لا يُسجل له إنجازاً. وليد جنبلاط يتفهم هواجس الأقليات لكنه يخاف “موارنة الجنس العاطل”، لذلك يُصبح حليفاً تلقائياً في الإصطفاف إلى جانب بري حتماً والحريري إفتراضاً. ماذا ستفعل السعودية في ظل استعصاء سُني على توليد البديل عن الحريري؟ وإذا استمرت المملكة في سياسة إدارة الظهر من سيحل مكانها؟ أين مصر من إعتذار الحريري ومن بدائله؟ أين تركيا؟ ماذا عن حزب الله الذي يتمسك بالحريري وحليفيه في آن معاً بري وباسيل وكيف سيتصرف إزاء إحتمالات الإصطفاف الطائفي؟ عقل جبران باسيل يشتغل بأدوات الماضي. في الأصل، وُلد من رحم الناقص الفادح في الحضور المسيحي منذ اوائل التسعينيات الماضية حتى العام 2005. شغله السياسي قام على ما اعتبره ثنائي القوات ـ التيار الوطني الحر (بعيد انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية) “فرصة ممكنة لإدخال تعديلات على اتفاق الطائف يعيد للرئاسة الأولى صلاحياتها ووهجها”. بدايات ذلك كانت في معركة قانون الإنتخابات والرسو على ما يُسمى “القانون الأرثوذكسي”. الأسوأ كان في نوع من “الأيديولوجيا” لهذا العقل والتي لا تؤمن بمعنى ومضمون النظام البرلماني ولا بمبدأ الفصل بين السلطات. كل هذا راح يؤسس لإحتقان سياسي يتشابه من دون أن يتماثل في النتائج مع ما حصل قبل إندلاع الحرب الأهلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي. هذا لا يلغي تميًز باسيل لجهة عدم استسهاله الشغل بالشأن العام فلديه البناء النظري، وهذا ما يفتقده سعد الحريري إلى حد كبير. لا يريد باسيل أن يخسر “فرصة الجنرال”، فما يمكن أن يحصّله الخلف في حياة السلف يبدو ممكنا ولو بحدوده الدنيا، لأن ما بعد السلف أسئلة مشرعة على المجهول. إقرأ على موقع 180 السعودية… “كورونا” والصراع على العرش عند رئيس تيار المستقبل أيضاً الكثير من الشكاوى والمبررات لرفع “حرارة” و”ثمن” الإعتذار. الشكاوى تبدأ من “تسلط” الرئاسة الأولى وصولاً إلى تشكيل الأخيرة حكومة ظل من المستشارين والحزبيين وجعل مقرها في القصر الجمهوري، ناهيك عن تكريسها أعرافاً وممارسات خارجة على الدستور أبرزها تحويل المجلس الأعلى للدفاع مؤسسة بديلة للحكومة ناهيك عن ظاهرة المراسيم الجوالة. أما مبرراته للاعتذار فهو عجزه عن تحمل تبعات أكلاف تعثر التأليف، كما أن عجزه عن التشكيل يعني فشله وعدم قدرته على الذهاب إلى الإستحقاق النيابي في ظل وضعيته هذه بالموازاة مع تصدع هياكل الدولة وإزدياد المآزق النقدية والمالية والإقتصادية والإجتماعية. هذا لا ينفي ان بعض اعتراضات الحريري تخفي إستسهالاً مستمراً لإخفاقاته على إمتداد تجربته السياسية. وإلى الشكاوى والمبررات، فإن أكثر ما أثار إستياء الحريري هو “مساواته” بالتعطيل مع باسيل، ودخول بكركي على خط الوساطة على هذا الأساس. صحيح أن إجتماع المجلس الشرعي كان بطلب من الحريري لكن ما يقتضي التبصر بأحواله هو أخذه تكليف الطائفة. وهو غطاء أيضاً بوجه أية محاولة خارجية لنزع التكليف من الرئيس المُكلف: وهنا لا أحد يتقدم على السعودية في محاولة رفع الغطاء عن سعد الحريري. ولهذا الغطاء الفاعلية نفسها داخلياً ضد أية محاولة لنزع التكليف أو الحلول محل الحريري. فثمة رسالة إلى البيت الداخلي مهد لها رئيس تيار المستقبل وتمثلت بإستيعاب أعضاء “اللقاء التشاوري السني” ثم تمترس كعادته في نادي رؤساء الحكومات الذي بات يشكل خطاً أمامياً دفاعاً عن التكليف. أيضاً، تطال شظايا إجتماع المجلس الشرعي في من تطالهم السفير نواف سلام في ظل رغبته الحارة بالحصول على التكليف وحماسة عواصم عديدة له أبرزها الرياض وواشنطن. نحن أمام إشكالية لم تكن مطروحة سابقاً. إشكالية علاقة الطائفة السنية أو المسلمين السُنة بالسعودية. فعندما كان النصاب منعقداً بين الحريرية والسعودية منذ العام 1983 حتى العام 2015، إنتفت الإشكالية. مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ثمة إشكالية مطروحة حول علاقته بسُنة لبنان، أطراً وجماعة. في خريف العام 2017، إحتضن السُنة الحريري وتمردوا على محاولات تنصيب بديل له. اليوم يعيد المسلمون السنة الأمر نفسه: محاولات “إعدام” الحريري سياسياً من الداخل او الخارج لن تنجح. لكن بالمقابل يطل سؤال: هل تنجح السعودية بفرض زعامة بديلة للحريري وما هي شروط ذلك؟ الحديث يدور عن قرار سعودي رفيع المستوى بالعودة إلى رعاية السُنة في لبنان ببرامج إغاثية وصحية ستنفذ عبر جمعيات ضماناً للشفافية ومنعاً لإستفادة الحريري منها. صحيح أن السعودية مارست في السابق السخاء، لكن الكلفة المالية لشراء شارع لبناني في زمن الإنهيار الإقتصادي راهناً صارت زهيدة جداً ولا تحتاج لأكثر من عشرات الملايين من الدولارات سنوياً، وليس على طريقة المليار دولار في كل موسم إنتخابي، كما كان يحصل سابقاً. الوجهة التي نحن بصددها تطرح الكثير من الأسئلة المُعقدة: ماذا ستفعل السعودية في ظل استعصاء سُني على توليد البديل عن الحريري؟ وإذا استمرت المملكة في سياسة إدارة الظهر من سيحل مكانها؟ أين مصر من إعتذار الحريري ومن بدائله؟ أين تركيا؟ ومن قبل ومن بعد: ماذا عن حزب الله الذي يتمسك بالحريري وحليفيه في آن معاً بري وباسيل وكيف سيتصرف إزاء إحتمالات الإصطفاف الطائفي؟