رضوان السيد -أساس ميديا
لا يحبّ الصحويّون، والإخوان بعامّة، تعبير الإسلام السياسيّ، الذي شاع في سبعينيّات القرن الماضي. والواقع أنّه ليس من حقّهم الانزعاج لأنّهم يقولون بالفعل إنّ الدين الإسلامي يمتلك مذهباً سياسيّاً مكتمل الأركان، وليس مجرَّد اهتمامٍ سياسيٍّ بالشأن العامّ، ومَن يتولّاه. وقد اكتسب هذا التوجُّه قوةً في الثلاثينيّات والأربعينيّات والخمسينيّات من القرن العشرين. وما اقتصرت الكتابةُ فيه على الحزبيّين في كلٍّ من مصر والهند وتركيا، بل انتصر له عدّة مفكّرين إسلاميّين في سائر البلدان، ناظرين تارةً إلى تاريخ تجربة السلطة والحكم في أزمنة الإسلام الكلاسيكي، وطوراً إلى التحدّيات الراهنة للهويّة والانتماء، والآتية من عالم الغرب الاستعماري. والحقُّ أنّ المسألة بدأت منذ القرن التاسع عشر عندما لاحظ مفكّرون، ولاحظت حركات في البلدان المستعمَرة، مثل الهند والجزائر ومصر… وفلسطين، أنّه بعلّة الاستعمار، وظهور حركات نخبويّة سُمّيت وطنيّة أو قوميّة، فإنّ المشروعيّة فُقِدت ولم تعد الدار دارَ إسلام. ولذلك سمّى حسن البنّا حزبه الجديد: جماعة الإخوان المسلمين (1928)، وسمَّى المودودي الباكستاني حزبه: الجماعة الإسلامية (1941). و”الجماعة” عند أهل السنّة عبر التاريخ هي مناطُ الشرعيّة، بينما يعتبر الأحناف أنّ شرعية المجتمع والدولة مكسوبة من السواد الأعظم من الناس، وهو معنى الجماعة نفسه. وهكذا فإنّ التسمية بالجماعة (بدلاً من الجمعيّة، وهو الاسم المتداول للهيئات الخيريّة) تعني إرادة حصر الشرعيّة بالتنظيم الذي يقوده المرشد لاستعادة المشروعيّة في المجتمع والدولة. وهذا وعيٌ جديدٌ انتظمت من حوله قلّةٌ في عدّة مجتمعات إسلامية، تنامت أعدادها في خضمّ الصراع مع الاستعمار، والصراع مع النخب السياسيّة الجديدة التي كانت تناضل ضد الاستعمار، وتؤسّس البنى الوطنيّة للدولة البازغة في زمن الاستقلال.
العنف لاسقاط الدولة الوطنية
وعي الانفصال عن الحداثة الاجتماعيّة والسياسيّة، والدولة الوطنيّة والقوميّة، كان وراء تقسيم الهند إبّان الاستقلال (1947) بحجّة حفظ الهويّة الإسلاميّة في الدولة الانفصاليّة: باكستان. وكان أيضاً وراء تنامي الكراهية لنظام الدولة الوطنيّة (الغربيّ أو المتغرِّب) في كلٍّ من إيران ومصر. ومنذ البداية، أي في الأربعينيّات والخمسينيّات، كان هؤلاء الراديكاليّون مستعدّين لممارسة العنف ضد شخصيّات الدولة الوطنيّة الجديدة. وفي حين استطاعت الحوزة الدينيّة الإيرانيّة إبقاء حراك الهويّة الدينيّة الطهوريّة موحَّداً إلى حين إسقاط الدولة الوطنيّة عام 1979، فإنّ الحركات الاحتجاجيّة السنّيّة تكاثرت، ولجأ بعضها إلى العنف العنيف (الحركات الجهاديّة) سعياً إلى إسقاط الدولة الوطنيّة، وإلى مصارعة نظام العالم الغربيّ، قبل الثورة الإيرانيّة وبعدها. فهناك هدفان لحركات الإسلام السياسيّ: إسقاط الدولة الوطنيّة بأيّ شكل، والعمل على بناء نظامٍ جديدٍ يستعيد المشروعيّة الدينيّة للمجتمع والدولة.
حركات الهويّة حركاتٌ اعتقاديّة، سواء أكانت دينيّةً أو قوميّة. ولأنّ محاولات إسقاط الدولة الوطنيّة ما نجحت من الضربة الأولى، شأن ما حصل في إيران، فإنّ النزعة العَقَديّة ازدادت وتصاعدت بحجّة أنّه اختبارٌ وبلاءٌ من الله، وأنّ النصر آت. إنّما مع ازدياد الضيق، تصاعد التشدّد، واتّخذ وجهات انشقاقيّة عن الأعراف العامّة والممارسات الاعتياديّة في مجتمعات المسلمين. وتعمّق هذا النزوع لدى الإخوان والجماعات المشابهة عندما تبنّوا السلفيّة في الاعتقاد، إذ امتدّ “التأصيل” في التفكير والسلوك إلى أصول الإسلام، واقترن العمل الاجتماعيّ العامّ بالتنظيم السرّيّ، وشاعت أزمنة الاستضعاف، واستراتيجيّات السلوك في أزمنة التمكين.
وما كان هذا التطوّر، منذ ستّينيّات القرن، معزولاً عن سياقات الحرب الباردة، والظروف الدوليّة، وإخفاقات سلطات الدولة الوطنيّة. في الحرب الباردة استُخدِم الدين والثقافة بكثافة. وجرى الاتّصال بالإخوان المسلمين وبالحركات المشابهة في الصراع ضد الشيوعيّة. ولذلك جاء التدخّل الروسيّ في أفغانستان عام 1979 فرصةً للرئيس رونالد ريغان للاحتفاء بالمجاهدين الأفغان ومساعدتهم. وأقصد بالظروف الدوليّة السياسات في الشرق الأوسط التي قسّمت العرب إلى معسكرين، واحد مع الولايات المتحدة، والآخر مع الاتحاد السوفياتيّ (انظر كتاب مالكولم كير: الحرب الباردة العربيّة). وبالطبع فإنّ الحركات الدينيّة والقوميّة واليساريّة استُخدِمت في الصراع.
الطبيعة تأبى الفراغ
أمّا إخفاقات سلطات الدولة الوطنيّة فحدّثْ ولا حرج، أكان في المسائل الداخليّة أم في الصراع على فلسطين. لقد كان واضحاً أنّ الثورة الإيرانيّة هي ثورةٌ على الدولة الوطنيّة لمصلحة مشروع معادٍ للحداثة مستخدِمٍ لأدواتها. وهو مشروعٌ عَقَديٌّ باسم الدين يشبه مشروع الإخوان في الأصل. في العام 1999 زرتُ مع مفتي الجمهوريّة السابق محمد رشيد قبّاني إيران، وقابلنا من كبار المسؤولين كلّاً من الخامنئي ورفسنجاني، وقد أخبرنا كلاهما أنّهم كانوا في الستينيّات يترجمون إلى الفارسيّة كتب سيّد قطب ورسائل حسن البنّا وأدبيّات الثورة الفلسطينيّة، وبخاصة ما اتّصل منها بالإسلام. وبدلاً من الاهتمام بالدواخل، والالتفات بالفعل إلى أسباب الفشل عدّة مرات في فلسطين، بل وفي حلّ المشكلات الداخليّة المتفاقمة الإثنيّة والقوميّة والاجتماعيّة، ومسائل الحقوق والحرّيات، حتى لا يحدث عندهم ما حدث لدولة الشاه، ذهب النظام البعثيّ بالعراق لقتال إيران، وذهب النظام البعثيّ في سورية للعمل مع إيران. وما كان الشعب العراقيّ يريد القتال مع الجوار، ولا كان الشعب السوريّ يريد العمل لمصلحة إيران ضد العراق. الأنظمة العسكريّة والأمنيّة العربيّة هي في الأصل أنظمة عقائديّة أيضاً، شأن سائر حركات التحرّر بعد الحرب الثانية. إنّما بعد تحرّر الداخل وتحريره، يأتي العمل على بناء الدولة. حتّى الثورة الصينيّة العظيمة ظلّت ممارساتها بائسةً وأهلكت الملايين، إلى أن تحوّلت في نهاية السبعينيّات إلى بناء الدولة بعد طول الثورة والثوران. في وقت ظلّ همُّ الأنظمة العسكريّة العربيّة، معظم الأحيان، تثبيت السيطرة بالداخل، والاستناد إلى أحد قطبيْ الصراع في الحرب الباردة. وبالطبع صارت ممارساتها بالداخل قامعة وفئويّة وتقسيميّة، مع الإسراف في استمرار الخطاب العقائديّ والثوريّ الذي لا مستند له في الواقع الداخليّ ولا في السياسات الخارجيّة العربيّة والدوليّة. والطبيعة تأبى الفراغ، فالخطاب التزويريّ الراديكاليّ للأنظمة، وبخاصة بعد وفاة جمال عبد الناصر، يستدعي البدائل، وكان من الممكن أن يكون البديل خطاباً ديموقراطيّاً أو خطاباً في بناء دولة الكفاية والحقوق في الحدّ الأدنى، كما حصل مثلاً في شرق أوروبا عند نهايات الحرب الباردة أواخر الثمانينيّات. لكن مَن الذي ينتج هذا الخطاب؟ كلّ المثقّفين العرب الكبار كانوا يساريّين، إمّا على طريقة السوفيات وإمّا على طريقة ماوتسي تونغ. ومَن بقيت لديهم نزوعات قوميّة، اصطفّوا من وراء صدّام أو الأسد.. أو حتى القذّافي. ولننظر في خطاب تحرير فلسطين. قرأتُ كلاماً على لسان الملك المغربيّ الحسن الثاني على أثر اتفاق أوسلو عام 1993، تحدّث فيه عن جهده عاميْ 1973 و1974 لإقناع الملك حسين بالتخلّي عن القضيّة الفلسطينيّة للفلسطينيّين
ويتابع الملك: كلّ الدول العربيّة تخلّت مسرورةً عن هذه المسؤوليّة، مع وعود التضامن، وقد ظلّ ياسر عرفات ذكيّاً في الحصول عليها. لكنّ البعثيّين في سورية والعراق ظلّوا يتاجرون بفلسطين في انتهازيّةٍ مفضوحةٍ. وانظروا، يقول الحسن الثاني، هذا الإنجاز الكبير الذي حقّقه الفلسطينيّون بجهدهم وعرقهم ودمائهم، وما استطاعت الدول العربيّة مجتمعةً تحقيقه قبل منظمة التحرير. وفلسطين، حتى من الناحية الجغرافية، إضافةً إلى العوامل العاطفيّة والدينيّة والقوميّة، ليست متعلّقة بالسياسات الخارجيّة فقط للدول العربيّة. ولذلك فإنّ الخروج العربيّ من فلسطين بسبب ثقل الأعباء، خلّف فراغاً، من الجهة الاستراتيجيّة، تنافست عليه عدّة أطراف إلى أن استولت عليه إيران بعد استشهاد ياسر عرفات. أمّا من الجهة العربيّة البينيّة فإنّ إسلاميّي الصحوات هم الذين استولوا على الملفّ بالتدريج، بعد شرود الجهاديّين وشذوذهم، وسيطرة الأجندات الدوليّة والإقليميّة على برامجهم وتحرّكاتهم.
ترشيد الصحوة
وعندما نتحدّث عن تراجع شعبيّات ونجاحات الدولة الوطنيّة العربيّة، ينبغي أن لا ننسى مسألة “عودة الدين” والاتّجاه لملء الفراغ. المفكّرون الغربيّون تحدّثوا منذ السبعينيّات عن ظواهر عودة الدين، وكانوا يقصدون الإحياء البروتستانتيّ الجديد، والنهوض الكاثوليكيّ في عهد يوحنا بولس الثاني. أمّا في مجالنا، وبدلاً من قراءة الظاهرة بحكمةٍ وتمعُّنٍ، والوصول إلى استنتاجات بشأن “ما العمل”، أقبل المحافظون على إنكار وجود الظاهرة، وصرخوا: متى غاب الدين حتى يُقال بعودته؟! أمّا المفكّرون اليساريّون والعلمانيّون فقد أقبلوا على مهاجمة الدين تحت اسم أو مصطلح “الموروث”، معتبرين الإسلام كلَّه عقبةً كأداء في طريق الدخول إلى عالم العصر وعصر العالم.
وأُريد التنبيه إلى ظاهرةٍ بالغة الدلالة، لكنّها ليست واضحة المعنى والمآلات. ففي الثمانينيّات والتسعينيّات، أقبلت فئاتٌ واسعةٌ من شبّان وشابّات الطبقات الوسطى في العالمين العربي والإسلامي على تديُّنٍ تعبّديٍ متنوّع. وصار لتلك الفئات برامج في الفضائيّات، وصارت عندهم نُخَب فكريّة مدنيّة دخلت في أُطروحات أسلمة المجتمع والدولة، وإن لم تكن متحزّبةً رسميّاً. وهذه النُخَب الفكريّة والقانونيّة والأدبيّة والرأسماليّة أدخلت على المجال الإسلامي أدبيّات جديدة في ترشيد الصحوة، وفي عظمة الشريعة وضرورات تطبيقها. وما ابتعد عن ذلك كثيراً بعض علماء الأزهر الذين لم يروا حرجاً في الانتصار لشعار تطبيق الشريعة، وإن لم يكونوا متعاطفين مع الإخوان المسلمين. وقد علَّل البعض هذه الظاهرة بالخيبة من تصرّفات الدولة الوطنيّة، سواء في الملفّات الداخليّة، أو في الملفّات الاستراتيجيّة، ومنها فلسطين. وأنا أرى أنّ “الفراغات” التي تركتها الدولة الوطنيّة في سائر الشؤون هبَّت لملئها أطرافٌ أُخرى محليّة أو إقليميّة أو دوليّة. وقد غلب الطابع الإسلامي على البدائل والحلول الحقيقيّة أو المتوهَّمة. أمّا الظاهرة نفسها فهي عالميّة. وقد أسهمت الولايات المتّحدة وغيرها في الشرعنة لهؤلاء الإحيائيّين، كما سمّيتُهم لفترةٍ طويلةٍ عندما استخدمتهم في أفغانستان، سواء في القتال أو في الخدمات اللوجستيّة والإنسانيّة. ونعرف من مذكّرات بريجنسكي، مستشار الأمن القوميّ الأميركيّ أيام كارتر، أنّ الاستخبارات الأميركية بدأت التفكير في استخدام الإسلاميّين مطلع السبعينيّات، وليس في القتال فقط، بل في الدواخل العربيّة والإسلاميّة أيضاً.
ولنصل إلى خاتمة المشهد. الدولة الوطنيّة العربيّة، ذات الحكم المدني، هي حاضر العرب ومستقبلهم. وعلى الرغم من انتكاساتها الكبرى، وسوء الحال في أنظمة الضباط، ما استطاع الإسلاميّون الراديكاليّون، ولا الصحويّون، إسقاطها. لكنّها لا تزال تعاني آثار تضاؤل شرعيّتها في أعين الجمهور، وفي أعين الخصوم الاستراتيجيّين، وأوّلاً وآخِراً في أعين أرباب الظاهرة الإسلامية المتعملقة، سواء أكانت جهاديّة أو من راديكاليّات “الإسلام هو الحلّ”، شعاراً انتخابيّاً.
وعلينا بدايةً أن نقول إنّ هناك أنظمةً أزالها ما سُمّي بالربيع العربي، وأُخرى باقية، لكنّ احتمالها لم يعد ممكناً، مثل نظام بشّار الأسد. لكنّ هناك مظاهر وظواهر نهوض وإصلاح في عددٍ من الدول الوطنيّة العربيّة، مثل السعوديّة ومصر ودولة الإمارات والمغرب. والأمل أن تتطوّر تلك التجارب المتميّزة خلال سنواتٍ قليلةٍ لتصبح تجديداً شاملاً لتجربة الدولة الوطنيّة العربيّة في مرحلتها الثالثة.
خطر الميليشات
ولنعد إلى تأمّل أكبر المخاطر الحالية على الدولة الوطنيّة العربيّة. هناك خطر الميليشيات، بشكلٍ عامٍّ، وهي ثلاثة أنواع: النوع الأول هو تلك المرتبطة بجهات خارجيّة إقليميّة أو دوليّة. والنوع الثاني هو ذات الميول العنيفة والإرهابيّة. والنوع الثالث هو تلك المرتبطة بقضايا دينيّة أو إثنيّة أو جغرافيّة، وتهدّد وحدة البلدان أو استقرارها أو استقلالها. أمّا النوع الأوّل فمثاله الميليشيات المرتبطة بإيران في العراق وسورية ولبنان واليمن. ومثاله أيضاً ميليشيات مرتبطة بتركيا، وأخرى بروسيا والولايات المتحدة. وفيما أعلم، فإنّ هناك مفاوضات على ميليشيات كل تلك البلدان باستثناء لبنان. وبالطبع لا استقرار بدون زوالها، لكنّ الثمن ضخم وهائل من الموارد ومن الوحدة الوطنيّة. إنّما لا بدّ من دفعه. أمّا النوع الثاني فهو إلى زوال في بلداننا على الأقلّ، ولا نعرف ماذا سيحصل في بعض بلدان إفريقيا وآسيا. لكنّ الأمر يبقى عذاباً على الناس، وسوء سمعة على الإسلام.
أمّا الأخطر فهو النوع الثالث المرتبط بقضايا كبرى، مثل تحرير فلسطين ووحدة السودان ووحدة المغرب ووحدة سورية والعراق وسلام الصومال. معظم هذه الميليشيات عقائدية أو شبه عقائدية. وبعضها، إضافةً إلى عَقَديّته وكراهيته للدولة الوطنيّة، مرتبط بجهاتٍ خارجيّة، مثل الإخوان المسلمين في ليبيا. وسنقصر الحديث هنا على حماس التي كانت طرفاً في حربٍ صاروخيّة مع إسرائيل. طبعاً هي من حركات الهويّة التي لا تستطيع بفكرها العقائدي بناء دولة. وبالطبع عندهم براغماتيّتهم التي يعرفها الصهاينة أيضاً. لكنّهم يظلّون ” عقائديين”، سواء في مسألة الهويّة والانتماء أو في الولاء لمن أعطاهم الصواريخ، وحتى الولاء للحوثيّ، تصوّروا! وأخيراً الإصرار على الاستيلاء على كلّ شيء من “فتح”، ولا يهمّ إن بقيت فلسطين تحت الاحتلال! نحن لا نقول ذلك جزافاً. فوعي الضرورة الآن يقول إنّ هناك فرصة لإعمار غزّة، والدخول في حلّ الدولتين. وهو أمرٌ لم يكن متاحاً منذ أوسلو عام 1993. لكنّهم ما قبلوا وساطة القاهرة، وربّما أرادوا هم أيضاً الانتظار لخدمة إيران في مفاوضات فيينا! حركات الهويّة هذه يمكن أن تكون براغماتيّة عندما ترى أنّ ذلك يقرّبها من السلطة، أيّاً تكن. أمّا الآن، ومع “فتح” ومصر بالذات، فهي تدّعي العقائديّة وتصرّ على استمرار الانقسام أو الغلبة.
كانت السنوات الخمسون الماضية، بالنسبة إلى الدولة الوطنيّة في العالم العربيّ، عقود تفويت وعجز وإضاعة. وقد شهر الخصوم والأصدقاء خلالها في وجوهنا جميعاً سيف الدين، الذي لا يجوز إدخاله في بطن الدولة أو خاصرتها، فيتضرّر الاثنان، الدين والدولة. وكما قلت في مقالةٍ بجريدة “الشرق الأوسط”: إنّ الاعتماد في المرحلة الجديدة على مصر المقتدرة، والمملكة العربية السعودية الصاحية والمتحفزة، لإحقاق ثلاثة أمور: تجديد تجربة الدولة الوطنيّة بحيث يقلّ إغراق الصحويّات، واستعادة السكينة في الدين بإخراجه من التسييس، وإقامة علاقات طبيعيّة وبنّاءة مع عالم العصر وعصر العالم.