عبدالله السناوي
كان تحويل مجرى نهر النيل في (18) حزيران/ يونيو (1964)، قبل (57) عاما، حدثاً مدوياً لا نظير له في التاريخ المصرى الحديث. فى ذلك اليوم البعيد بدت مصر كما لو أنها على موعد مع التاريخ والآمال المفتوحة على المستقبل ببناء سد عال يحميها من الجفاف والفيضانات، يوسع الرقعة الزراعية ويدخل البلد عصر التصنيع الثقيل والكهرباء إلى كل بيت. لم يكن رفض البنك الدولى تمويل مشروع بناء السد العالى، السبب الرئيسى لتأميم قناة السويس عام (1956) بالفعل ورد الفعل. منذ احتلال مصر (1882) وهى تتطلع إلى هذا اليوم، الذى تستعيد فيه الشعور بالكبرياء الوطنى، والقدرة على الدفاع عن حقوقها الأصلية. الكلام عن استعادة قناة السويس دون تأميم، أو قتال، أقرب إلى الخزعبلات السياسية. بعد تحدى السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التى لا يمكن تجاهلها. اكتسبت مصر أدوارها القيادية فى أفريقيا بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزانًا استثنائية فى عالمها الثالث بإلهام أن دولة نامية واجهت تحديًا شبه مستحيل وكسبته. جرى بناء السد العالى أكبر وأعظم مشروع هندسى فى العالم بالقرن العشرين، وبنت ثورة «يوليو» بقدر ما استطاعت مصانع ومدارس ومستشفيات وعمّرت الريف ونهضت بالطبقة الوسطى، انحازت إلى قوى الإنتاج والطبقات الأكثر حرمانًا. لم يكن تأميم القناة سوى خطوة فى مشروع امتد إلى كل مناحى تحسين جودة الحياة، وإشاعة العدل الاجتماعى. مصر دولة مصب يتوقف عندها جريان نهر النيل، وليست دولة منبع كإثيوبيا التى تتصور أن بوسعها جعل النيل الأزرق بحيرة خالصة تتحكم فيها دون اعتبار لقانون دولى، أو حقوق حياة لشعوب أخرى السياسات أخذت زخمها من قوة الفعل وحجم التطلع إلى تحسين أحوال المواطنين، وأخذت تتبلور من خطوة إلى أخرى حتى اكتسبت «يوليو» مشروعها. فى حرب السويس اكتشفت مصر نفسها من جديد وبدت أمام «الباب المفتوح»، وفق رواية الدكتورة «لطيفة الزيات» عن تلك الفترة والروح التى بثتها. جرت أحداث الرواية بين عامى (١٩٤٦)؛ حيث ولد جيل جديد صاغت تجربته حقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية و(١٩٥٦) حيث ألهمت حرب السويس روحًا استقلالية وتحررية ونظرة مختلفة لقضية المرأة، كما لخصتها «ليلى» بطلة النص الروائى، التى تمردت على قيودها ونظرة المجتمع إلى دور المرأة، واكتسبت حقها فى الحرية بالانضمام إلى الفدائيين فى بورسعيد إسعافًا لجرحى وتضميدًا لآلام. فى تجربة الحرب تأكدت حقيقة أساسية أن من يقاتلون ويدفعون فواتير الدم هم أصحاب الحق الأصيل فى البلد، فى الصحة والتعليم وحق العمل والترقى بالكفاءة دون تمييز بين امرأة ورجل. لم تكن معركة بناء السد العالى نزهة نيلية بقدر ما كانت تجسيدا لطلب التنمية فى أجواء تحد واستعداد لدفع جميع التكاليف. المقارنة تكاد تكون شبه مستحيلة بين السدين، المصرى والإثيوبى، من حيث طبيعة أهداف ومعارك كل منهما. الشيء الوحيد المشترك هو طلب الحق فى التنمية والكهرباء، كل شيء بعد ذلك يختلف. هناك فارق جوهرى بين طلب التنمية والجور على حق الآخرين فى الحياة. لم تعتدِ مصر على أحد فى معركة بناء السد العالى، بل كانت موضوعا للاعتداء حتى لا تنهض وتكتسب استقلال قرارها الاقتصادى بعد أن انتزعت فى حرب السويس استقلال قرارها السياسى. ولا جارت على الحقوق المائية لأحد، فمصر دولة مصب يتوقف عندها جريان نهر النيل، وليست دولة منبع كإثيوبيا التى تتصور أن بوسعها جعل النيل الأزرق بحيرة خالصة تتحكم فيها دون اعتبار لقانون دولى، أو حقوق حياة لشعوب أخرى. كل ما يستطيعه السد العالى الآن أن يؤجل انفجار أزمة شح المياه لثلاث سنوات، إذا ما تفاقمت دون حل أو تسوية بالوسائل السياسية أو بغيرها، بتعويض العجز من مخزون بحيرته، التى توصف بأنها واحدة من أكبر البحيرات الصناعية فى العالم، وتبلغ قدرتها التخزينية (165) مليار متر مكعب لم يكن السد العالى سوى معركة فى حرب حقيقية حول المنطقة ــ بند فى مشروع، وليس كل المشروع! أى مشروع يكتسب قيمته من قدرته على صياغة إرادة التغيير فى مجتمعه بما يتسق مع احتياجاته وفق رؤية للمكان والزمان والإنسان. أسس السد العالى لبناء قطاع عام قوى وقادر على التنمية والوفاء بمتطلبات الانتقال إلى عصر جديد أكثر عدلًا اجتماعيًا، كما أسس لاتساع الخدمات الصحية والتعليمية وجودة الحياة وتكافؤ الفرص. اكتسب السد العالى رمزيته من سياق مشروعه. تلك المعانى التحررية الكبرى تغيب بفداحة عن السد الإثيوبى. لم تنشأ فكرة سد النهضة بدواع إثيوبية خالصة طلبا للتنمية والكهرباء، فهذا مشروع تماما وحق أصيل لا يصح المنازعة فيه، بقدر ما كانت دواعيه تحريضا على مصر لمنعها من أى نهوض محتمل بسلاح المياه ضغطا على وجودها نفسه. كل من طلب تهميش مصر خامرته فكرة إنشاء سدود فى إثيوبيا تمنع تدفق المياه إليها. بعد معركة السد العالى أعادت الفكرة طرح نفسها حتى وجدت فرصتها فى السنوات العشر الأخيرة. بالتحريض المنهجى استخدم مشروع السد الإثيوبى لإثارة مشاعر سلبية ضد «العدو المصرى المفترض»، ظنا أنه مما يوحد دولة ممزقة عرقيا وسياسيا. تراجعت أفكار التعاون الإقليمى الضرورى بين دول حوض النيل وسادت مشاعر الكراهية حتى كاد شريان الحياة يتسمم بتلك الأجواء. بعد ثلاث سنوات بالضبط من تحويل مجرى النيل تعرضت مصر إلى هزيمة عسكرية فى (5) حزيران/ يونيو (1967)، كان مشروعها التنموى فى صلب أهداف ما جرى. وقد ساعد على نجاح تلك الضربة المروعة الأخطاء الجوهرية فى بنية النظام المصرى. بالقرب من الملء الثانى لخزان السد الإثيوبى، وبالرغم من أية إعاقات فنية مؤقتة، فهناك خطران لا يمكن تجاهلهما على المصير المصرى كله. الأول، أن تسيطر دولة منفردة عند منابع النهر على مياهه، تمنع وتمنح، دون اتفاق قانونى ملزم، تسعر المياه، أو تبيعه وتقايض عليه، وهذه مسألة تتعلق مباشرة بالسيادة واستقلال القرار الوطنى وهيبة البلد فى محيطة وحياة مواطنيه قبل وبعد كل شيء. الثانى، إرغام مصر، إذا لم يكن هناك اتفاق قانونى ملزم، على سحب كميات متتالية من مياه بحيرة السد، التى كان يطلق عليها «بحيرة ناصر»، لسد العجز الفادح المتوقع فى المياه. كل ما يستطيعه السد العالى الآن أن يؤجل انفجار أزمة شح المياه لثلاث سنوات، إذا ما تفاقمت دون حل أو تسوية بالوسائل السياسية أو بغيرها، بتعويض العجز من مخزون بحيرته، التى توصف بأنها واحدة من أكبر البحيرات الصناعية فى العالم، وتبلغ قدرتها التخزينية (165) مليار متر مكعب. المأساة السودانية أفدح وعاجلة، غير أن تبعاتها الكاملة سوف تصل مصر، إذا لم تنهض بواجبها دولة وشعبا فى الدفاع عن حقها الأصيل بمياه نهر النيل.