منى سكرية
غاصت مخيلات روائيين في توصيف شريحة اجتماعية عُرفت بالمهمّشين، وفي تصوير أوضاعها المزرية. “أبطال” الروايات هذه، من فئات عمرية عدة. من أطفال رَمَتْهُم ظروف الحياة في قاع المجتمع، إلى كهول ذاقوا من الحياة فقط مرارتها.. فأحنت ظهورهم بالتعاسة والبؤس. أبطال هذه الروايات أناس من لحم ودم وأحلام وتطلعات كسرتها فئة جامحة للكسب والنهب تحت عناوين وقوانين وتقاليد لا ترحم، ولا تقيم وزناً لأي عدالة إنسانية. لن أستحضر هنا تحفة الروائي المغربي محمد شكري الخالدة وعنوانها “الخبز الحافي”، وما تضمنت من تصوير مؤلم وجارح وخادش للمشاعر والضمائر لحيوات هؤلاء المهمّشين. ولن أحكي هنا عن رواية “النبّاشون” للطبيبة الروائية السورية سوسن جميل حسن، وما أضفته من تصوير وترسيم دقيقين لشخوص روايتها هذه، و”نبّاشوها” في ليلهم ونهارهم، والتهميش الذي واكبهم في قاع مجتمعهم، والاقصاء المعنوي الذي أودى بسرديات يومياتهم. لكنني، عندما استمعت لخبر تَنَاثَر على مدى أسبوع فائت، وفيه احتجاج على “نبّاشي” مطمر برج حمود للنفايات، قلت في نفسي، أنهم من “أقرباء” أو من سلالة “النبّاشون” في روايتي محمد شكري وسوسن حسن. مناسبة هذا الكلام، ما تابعناه من “صراعات” دارت على مطامر النفايات وبالآلات الحادة أحياناً بين هؤلاء “النباشّون” عن لقمة عيشهم في نفايات من يعيشون على حساب لقمة عيش هؤلاء. ليست أحجية؟ إنها نتاج خلل في بنيتنا الاقتصادية والاجتماعية. خلل عمره من عمر الكيان المريض. مدهشٌ حقّاً مسيل اللعاب هذا لدى بعض اللبنانيين في شهوتهم لتكرار لعبة الحرب والحروب ومفرداتها اللفظية البغيضة ففي مطمر برج حمود من ضواحي مدينة بيروت، ساءت لغة التفاهم بين شريحتين اجتماعيتين: فتية يمتلكون من زهو أعمارهم قوة جسدية وسراب طموحات، ونذر يسير من معنى “بهرجة” الحياة. وفئة ثانية تمتلك بجبروتها ما افتقده أولئك الفقراء من انتظام عيش رغيد ولائق. هذه الفئة اتهمت أولئك الفتية بأنهم يبعثرون الكنوز المطمورة في المطمر، وأنهم يعيثون بـ”مناجم” الحديد والبلاستيك والألمنيوم ومشتقات النفايات الصلبة لجمعها وبيعها وتحقيق الثراء الفاحش بفضلها؟. من حق متعهد النفايات في المطمر أن يعترض ويهدد ـ وقد فعل ذلك – بالتوقف عن جمع النفايات، تحصيناً لعمال شركته وثروته(!).. ومن بداهة التوقع، أن يعمد فتية عاطلون عن العمل في زمن العطالة والبطالة إلى البحث عن عمل دفعتهم ظروف حياتهم إلى ممارسته، لكن ليس مقبولاً ـ برغم أنه موجود كمرض مزمن وعضالي وعصي على المعالجة – إعتماد هذه الطريقة في بث ومعالجة الخبر، أي بلغة عنصرية مقيتة: البعض وصفهم بـ”مجموعات غريبة”، “غزو”، “اقتحام”، “تهديد أمني”، “عمال من جنسيات مختلفة” و”لكن الغالبية من العمال من السوريين” الخ. مدهشٌ حقّاً مسيل اللعاب هذا لدى بعض اللبنانيين في شهوتهم لتكرار لعبة الحرب والحروب ومفرداتها اللفظية البغيضة. استفاقت عنصرية “اللبناني” على “سرقة” (كما قال أحدهم) عمال سوريين لكنوز المطمر، ولكنها لم تستفق على النهب المنظم الذي تمارسه شركات جمع النفايات وبالشراكة والتحاصص مع سياسيين، أو في الحثّ على تشجيع “اللبناني” على ثقافة البيئة واحترام قواعدها. ليس من الغريب أو المستغرب أن تترافق مفردات النبش والتنبيش مع شعور الغضب أو أن تتلازم استخدامات مفردة مساحة المطامر مع ثقافة الطمر والتطمير. تباً لهذا المطمر الفسيح على مساحة 10452 كلم2.