حسام كنفاني-العربي الجديد
مشاهد الوحدة الشعبية العارمة التي شهدتها الأراضي الفلسطينية كافة خلال العدوان على غزّة، والتي أثارت الكثير من التفاؤل في صفوف الفلسطينيين الراغبين في توحيد الصف والكلمة، لم تدم أكثر من أيام بعد نهاية العدوان. إذ ما لبثت أن عادت الحسابات الفصائلية لتتصدّر المشهد السياسي الفلسطيني، وتدمّر كل ما بني، ليس خلال العدوان فحسب، بل حتى قبله، حين تم التوافق على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني تمهيداً لإنهاء الانقسام. اليوم هناك عودة واضحة إلى ما قبل ذلك الاتفاق، ومع أنه لم يطبق بسبب تأجيل الرئيس الفلسطيني محمود عباس الانتخابات التشريعية بضغط مخاوفه من الخسارة، إلا أنه كان أساساً يمكن العودة إليه بالتراضي لاحقاً، الأمر الذي يبدو اليوم غير ممكن.
لكل من طرفي الانقسام حساباته حالياً، خصوصاً بعد العدوان الأخير على غزة وما نتج عنه من تبدل في موازين القوى، الداخلية على الأقل، في ظل تراجع طرف وتقدم آخر. هذا التقدم والتراجع باتا الأساس في نسف ما جرى التوافق عليه، فالغاية اليوم بالنسبة إلى “حماس” و”فتح” هي استثمار الأولى للتقدم وتعويض الثانية للتراجع، وهو ما أدّى أخيراً إلى الصدام السياسي الذي أطاح حوار القاهرة الذي كان مقرراً اليوم السبت.
بالنسبة إلى “حماس”، ما قبل العدوان على غزة ليس كما بعده أبداً، فهي ترى أن هناك قواعد سياسية وعسكرية شُكلت بعد العدوان، لا بد من أن تتمظهر في الدور السياسي والاقتصادي للحركة في مرحلة ما بعد العدوان، وتحديداً في سياق إعادة إعمار القطاع المدمر، وهو واحد من أسس الخلافات حالياً مع السلطة بشكل أساس. و”حماس” تعتبر أنها خرجت بـ”انتصار” من العدوان على القطاع، على الأقل في ما يخص الصمود والقدرة على الإيلام، وهو أمر غير قليل في المواجهة مع الاحتلال، وبالتالي فإن هذا “الانتصار” لا يمكن أن يكون من دون تصريف على أرض الواقع سياسياً. لذا فهي باتت تعتقد أنها قادرة على إملاء شروط على المتحاورين الفلسطينيين وفرض أجندات، وإدخال أطراف جديدة إلى طاولة الحوار. وبحسب ما تسرب مما سمي “رؤية حماس” للحوار الوطني، فإن أولوية الحركة الآن هي منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الغطاء الأساسي للسلطة الفلسطينية. وتدرك “حماس” أنها قادرة، خصوصاً في الوضع الحالي اللاحق للعدوان، على استثمار شعبيتها في الداخل والخارج بالحصول على الغالبية في المنظمة، تمهيداً لنيل السلطة كاملة، على الأقل في المدى المتوسط، ولا سيما في ظل رسائل سياسية بدأت تخرج من قادتها تتعلق بالقبول بدولة على حدود 1967.
إعادة الإعمار وإدخال الأموال إلى القطاع، هما أحد الأهداف الأساسية للحركة أيضاً، على أن يكون لها دور إشرافي في الأمر. فـ”حماس” تدرك أيضاً أن أي تأخير في الإعمار وإدخال الأموال سيزيد من التململ في قطاع غزة، ويقلب حالة الالتفاف حول الحركة التي خلّفها العدوان إلى نقمة على “حماس” باعتبارها “مسببة للدمار”، وهو أمر حصل في أكثر من مناسبة منذ فرض الحصار على قطاع غزة بعد سيطرة الحركة عليه في 2007.
في المقابل، فإن السلطة الفلسطينية، ومن ورائها حركة “فتح”، تدرك هذا الواقع، وأن واقع “حماس” اليوم وأهدافها باتت أوسع، خصوصاً أنه في وقت الاتفاق الأولي على الانتخابات كانت الأخيرة تعاني نزفاً شعبياً عوّضته حالياً، لذا فالسلطة تصر على تأكيد أنها صاحبة الشرعية الفلسطينية الوحيدة، حتى لو كان الانقسام الجغرافي والسياسي قائماً بين غزة والضفة الغربية، وأن أي أموال تدخل القطاع لا بد أن تكون عن طريقها. وهي اليوم مستفيدة ومنتشية من أن المجتمع الدولي عاد لتكريسها راعية للوضع في غزة عبر الحديث معها في أمور التهدئة والإعمار. ومن المؤكد أن السلطة لن تتخلى عن هذا الدور، بل هي تراه رافعة لا غنى عنها لتعويض التقهقر في الشعبية.
هذه الحسابات السياسية والفصائلية تضع الوضع الفلسطيني في معضلة غرق إضافي في الانقسام، وفي هذه المرحلة قد يكون أكثر تعقيداً.