“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح
إجتماع “البيّاضة” الثالث، طار مبدئياً. العِثّ دخل على المشاورات الحكومية الأخيرة، فخرّبها. الشارع يغلي، لا وقود لا دواء وقريباً لا طحين، ودول خارجية أوصلت رسالتها إلى الجانب اللبناني وتبلّغها المعنيون، بضرورة تنفيذ “إجراءات فورية” للحدّ من الإنهيار الحاصل وعدم السماح بتحوّله إلى فوضى عارمة.. في مقابل كل ذلك ما الذي حدث؟ سادت الفوضى المقارّ الرسمية! ما يُصطلح على تسميته “معالجات سياسية” سُحق بالأمس تحت “محادل” البيانات.
الفرصة التي لاحت قبل يومين، وألمحت إلى إمكان تذليل عقابات في ملف التأليف، ما يوفرّ ظروف تحقيق نبوءة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، بتشكيل حكومة في غضون أسبوعين، سقطت. كان الأمر متوقّعاً طالما أن اجتماعات “البياضة” لم تقم على أسس متينة، فصار أركانها أقرب إلى خصوم، يتبارون في توزيع التسريبات وتنفيس التفاهمات.
الكلام الآن للشارع، طالما أن الجميع قد خرج من عقله وسلّم بالأمر الواقع بأن “لا حكومة”. رئيس مجلس النواب بات في صورة، أن مبادرته الإنقاذية المرتكزة إلى أفكار النائب السابق وليد جنبلاط، تُنازع ومُقبلة على الموت. رغم ذلك لا زال يُكابر. يرفض إلى الآن سحب مبادرته من التداول. أعاد توزيع أوامره لـ”فرض التهدئة” إفساحاً في المجال أمام تهدئة النفوس، على أن يُجري خلال هذه الفترة “ورشة تقييمية” لكل المسار، للبناء على مدى جدوى العودة مرّة أخرى إلى المفاوضات، أو الإبقاء على حالة الهدوء وتثبيتها. في قرارة نفسه، فإن الإحتمالات لا تتعدى صفراً، وفي قرارة نفس غيره فإن الطريق للعودة إلى المفاوضات يحدّدها الشارع، أو الإعتذار!
إذاً، صار برّي مأسوراً بالمسار، وصار أقرب إلى تحديد خياراته النهائية. هو لن يسمح بأن تستمرّ المراوغة في التأليف إلى ما لا نهاية. على الطرف الآخر، صار “بيت الوسط” مأزوماً أكثر من ذي قبل، ومجبر على اتخاذ موقف لقطع نزاع القوم. صار الحريري ملزمًا بت أمره، إن كان ينوي على خطوة الاعتذار فليقدم عليها من دون تأخير كون التأخير قد بات يأكل من صحن البلد، وليتراجع فورًا عن لغة الحسابات وتقريش المكاسب وإنتقاء الموعد المناسب لمصالحه الإنتخابية.
في الطريق إلى ذلك عاد الإستهجان ليقف من جديد عند تصرّفات الحريري. الرجل لم يتعلّم من ماضيه، وعاد إلى تكرار المعزوفة ذاتها، الذّم بالبيانات! حين كانت “نتائج إجتماع البياضة” لا زالت “على الطاولة” ويجري العمل على “تقطيرها”، كان الحريري يُكرّس عبر الإعلام “القطيعة” مع جبران باسيل، ويبدي استياءه أمام من يلتقيهم من إنتقال المفاوضات من بعبدا إلى البياضة. صار الرجل مأزوماً، أسير أسماء المناطق. بنى إعتقاداً أن باسيل يرمي إلى إقحام المنطقة التي شيّد فيها منزلاً، إلى قائمة الصروح السياسية، فثار! قبل ذلك رفض أن تُخاض المفاوضات في بعبدا مدّعياً أن باسيل هو من يشغلها ويشغّلها، فانزعج وسرّب. مشكلة الرجل باتت نفسية إذاً أكثر من كونها سياسية، باتت القضية بالنسبة إلى الرجلين نزاعاً شخصياً يحمل طابعاً سياسياً، وأقرب إلى معركة إلغاء. سعد الحريري يجد في تعميق مأزق العهد وفجوة الإقتصاد باباً لإلغاء باسيل، وجبران يجد أن الحريري لا يقوى إلا على الشتائم ومأزوم في محيطه وعرضة للاستهداف من خصومه في الطائفة، لذا يجد فائدةً في تعريته سياسياً وإظهار إرتباكه ودفعه نحو الفشل الحكومي، وختاماً الإعتذار حتى تتوفّر شروط إلغائه!
في الواقع، هذا ما توحي به بيانات بيت الوسط وردة فعل ميرنا الشالوحي. صار منطق الحريري دوني وشخصي تجاه باسيل. لقد بات يفرّغ كل مكنوناته ببيانات ويرميها بوجه الرجل ليعمّق منطق التأزيم على الساحة. ما كان الداعي لأن يصوغ بيان “ذمّي” كان قد قال للخليلين بأنه لن يعود إليه، رداً على تسريبة “الأجواء والإيجابية والكرة” بعد يومين على صدورها، إلا أن للحريري مآرب أخرى ومسكون بلعنة جبران؟
المشكلة لا يمكن حصرها بهذا الإطار، إنما بفقدان الثقة لدى الحريري. حين حضر إليه المعاون السياسي النائب علي حسن خليل، بخلاصة ما تمّت مناقشته في “خلوة البياضة” الثانية، فضّل الحريري بداية عدم تقديم أجوبة. فهم أنه يُريد “تمحيص” ما بين يديه على أن يفنّده بورقة تتضمن شروحات تصلح للعودة إليها لتوسيع النقاشات. بدل الرّد على الورقة بورقة، تذكّر بعد يومين على “تسريبات” باسيل، أن من واجبه الرّد، فأمطره ببيان عكس صورة الأجواء السلبية في بيت الوسط. هجوم الحريري عبر تيار “المستقبل”، على باسيل، أتى بعد 3 أيام على اجتماع البيّاضة، ويومين على تسريبة أوساط جبران باسيل التي أزعجت الحريري، ويومين على نفيها من قبل حسن خليل بإسم الثنائي الشيعي، ويومين على إشاعة الأجواء “شبه الإيجابية”، فلماذا انتظر الحريري كل هذا الوقت حتى يردّ، ولماذا دائماً ما يعيد تفعيل “مبادرته الهجومية” بوقتٍ متزامن مع “نضوج الحلول”..؟
مشكلة الرئيس الحريري الأساسية أنه لا يُريد أن يؤلّف، فيجد في اختلاق وابتداع الأزمات وإسقاط الحلول مخرجاً، وعادة ما يستغلّ سقطات باسيل وفريقه السياسي لاتخاذها سبباً. مشكلة الحريري، أنه يبحث عن التوقيت المناسب لإعلان اعتذاره من غير أن يجده. مشكلة سعد الحريري أنه لا يريد إغضاب الرئيس برّي. مشكلة الحريري، أنه يريد أن يقرّش إعتذاره والإستفادة منه داخلياً وخارجياً. مشكلة الحريري، أنه يريد إبقاء العهد أطول فترة ممكنة من دون حكومة ليستثمر نتائج ما يترتب عن ذلك. مشكلة الحريري أنه يريد دفع رئيس الجمهورية، إلى مشارف الإنتخابات النيابية من دون حكومة، وبعدها يفرض عليه حكومة إنتخابات لا حكومة إنقاذ. مشكلة الحريري، بأنه لا يريد أن يسمح للعهد بتحقيق أي إنجاز، حتى ولو اقتضى ذلك تعميق الأزمة. مشكلة الحريري، أنه يريد دفع البلاد صوب الفوضى، حتى ولو أدى ذلك إلى تسريع الإنهيار… مشكلة الحريري في الخيارات والذهنية.