ما تقوم به تركيا تجاوز بكثير العمليات العسكرية، التي أصلا استهدفت الأرض والانسان، بل وصلت الى تفاصيل غاية في الأهمية، ترتبط بالحياة، وأيضا الثقافة والتعليم واللغة، ما يعني ان الاتراك ينطلقون من مبدأ التأثير المديد الذي لا يمكن محو اثاره بسهولة، ويشي بنية مبيتة بالضم، وفي حده الأدنى البقاء الدائم في المناطق التي يتواجدون فيها، وهي مساحة ليست بالصغير، بل تبلغ 8835 كم²، تشكّل نحو 4.9% من إجمالي مساحة سوريا.
هي مرحلة تخطت بخطورتها كل ما تقوم به تركيا من انتهاكات على المستوى العسكرية والأمني في شمال البلاد، حيث بدأت الدولة التركية بالتدريج في سياسة التتريك، انطلقت نحو هدف مرحلي وهو ربط المناطق الشمالية بالدولة التركية، عبر مسار اقتصادي واضح بالإضافة الى التعليم وما تلا ذلك من خدمات إدارية أخرى، وصولا الى اصدار بطاقات هوية تركية للأهالي في تلك المنطقة، وطمس الهوية الثقافية للمدن والقرى، في تكريس واقع جديد لا يقتصر على الاعلام التركية واللافتات، بل وصل الى استيلاء شركات تركية على مباني حكومية والعمل فيها مثل شركة أي كي اينرجي المتخصصة بالكهرباء التي افتتحت لها مقر في مدينة اعزاز السورية، لتزويد المناطق بالكهرباء بعقد قيمته 3 ملايين دولار، ومؤسسة البريد التركية لم تقف متفرجة، بل أيضا كان لها النصيب بافتتاح مكاتب في المدن السورية، وامثلة كثيرة من جامعات ومدارس ومناهج، ووصل الى التتريك الاقتصادي الذي فرضته انقرة، من خلال فرض التعامل بالليرة التركية، وافتتاح فروعا لبنوكها ومكاتب صرافة، في محاولة حثيثة تركية لفك الارتباط الإداري والمؤسساتي بين القرى والمدن والبلدات والدولة السورية، لكن يبقى التتريك الثقافي هو الأخطر كونه يستهدف المستقبل، وهذا يفسر الحرص التركي على الهيمنة المطلقة على المؤسسات التعليمية، وافتتاح المدارس والجامعات، وفرض المناهج واللغة، وتسويق الثقافة الخاصة بالدولة التركية.
ما يقوم به النظام التركي، ينطلق من مبدأ الحرب بأقل كلفة، هي حرب من نوع يختلف عن الاشتباك العسكري والسياسي، ويعتمد فيها على سياسة فرض الامر الواقع، بعيدا عن حبال السياسي وتقاطعاتها الميدانية، والتحكم بمسار الحياة اليومية للناس، ورسم خارطة المستقبل، بعيدا عن كل التفاهمات السياسية او خارطة التواجد العسكري، وفتح مسرح العمليات على معارك جانبية جديدة، لتحسين شروط التفاوض مستقبلا، واستخدام أوراق جديدة، بعد شراء الوقت، وتنويع خيارات الرهان، والتطويع الاتوماتيكي للأحداث، بعد ان كان يقتصر على المجموعات الإرهابية التي اثبتت فشلها اكثر من مرة.
هو حراك تركي يتخطى الفشل السياسي ويصل الى مواجهة تتجاوز السيطرة العسكرية، وتأخذ صيغة التحضير للقادم من الأيام، بحسابات ومعادلات جديدة، تستثمر مستقبلا كخطوط تسخين سياسية، ما يشكل انتهاكا واضحا للقانون الدولي، وتحديدا بموجب المادة رقم 53 والمادة رقم 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لسنة 1949 و المادة رقم 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1949، وسط صمت دولي على ممارسات منظومة العدوان، التي استغلت كل الفائض من قوة عسكرية وسياسية واقتصادية ودبلوماسية، وحتى نفسية، لفرض واقع جديد في الشمال السوري، واليوم تفرض معادلة جديدة على مقاس هذا الفائض من القوة، دون ان تلتفت ان الضفة الأخرى من ارض المعركة، لها أيضا حساباتها وخياراتها، وان هذه الانتهاكات التركية، ستولد شكلا جديدا من اشكال المقاومة، التي لا تلتفت لمعادلات تركيا في المنطقة او استفرادها بالساحة في مناطق تواجدها هي والمجموعات المسلحة.
إن المخطط التركي الذي لم يقف عند حدود المساحة التي حضرتها لها علاقتها بالمجموعات المسلحة، بل تجاوز ذلك الى توظيف تلك المساحة، وبنت عليها سلسلة من الأهداف الموازية لدور المجموعات المسلحة، بعد فشل فكرة المنطقة العازلة، ليفرض بأسلوب مختلف هذه المنطقة العازلة، وهنا يبرز دور الصمت الأمريكي والأوربي المريب، والذي لا يخرج عن جلدته، ويتطابق أيضا مع دعمهم لتنظيم القاعدة، في لبوس فضفاض يجعل منها تنظيم معتدل، ويرعى المصالح التركية، ومنها ضم تلك المناطق، والعمل على تقسيم البلاد وسلخ جزء منها.
حسام زيدان – العالم