انفجار تلوث بيئي ضخم يهدّد مناطق البقاع وزحلة بدءاً من نهاية الشهر الجاري، بعدما رفع متعهّدو تشغيل محطات الصرف الصحي «العشرة». إذ أن قيمة عقود التشغيل بالليرة لم تعُد تكفي للرواتب والمحروقات والصيانة، فيما مؤسسة مياه البقاع المفلسة لا قدرة لها على تحمّل هذه الأكلاف
أما وعد نائبة وزير الخارجية مارينا سيريني، التي تفقّدت محطة زحلة الشهر الماضي، بأن بلادها «لن تترك المحطة» التي أنشأتها وتشغّلها شركة «سويز» الإيطالية بتمويل من مؤسسة التعاون الدولي التابعة لوزارة الخارجية الإيطالية، فيبقى وعداً في الهواء. إذ أن «لا شيء مضموناً» حتى اللحظة، بحسب رئيس مجلس إدارة مؤسسة مياه البقاع رزق رزق، «فحتى لو مُددت مهلة التشغيل ستة شهر إضافية، ماذا سنفعل بعد انتهاء المهلة؟».
الكارثة واقعة إذن. ما يحصل ليس سوى تأجيل وقوعها، في ظل عجز مؤسسة مياه البقاع عن تسلمها وتشغيلها. والمحطة التي أطلقت قبل 4 سنوات، وهي الأنجح في لبنان، تعمل وفق «المعالجة الثلاثية»، وتعالج نحو 37 ألف متر مكعب من مياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية يومياً، والمياه الخارجة منها قابلة للاختلاط في الأوساط المائية وإعادة استخدامها في ري المزروعات! لذلك، فإن توقفها ينذر بـ«انفجار» تلوث بيئي كبير في زحلة ومناطق الحوض الأعلى لنهر الليطاني، وتسرّب الملوثات إلى المياه الجوفية، وارتفاع التلوث في الليطاني إلى مستويات هائلة كان قد حدّ منها تشغيل المحطة.
مؤسسة مياه البقاع أصدرت بياناً شرحت فيه أسباب عجزها عن تسلّم محطات زحلة وإيعات وجب جنين وتشغيلها، بسبب «العجر المالي الضخم والمتراكم الذي تعاني من المؤسسة (ما يزيد على 100 مليار ليرة)، وعدم تسديد نسبة كبيرة من المشتركين للرسوم المتوجبة عليهم في الأحوال العادية»، أضف إلى ذلك، يقول رزق، إنه «لا يمكن للمؤسسة أن تلجأ إلى تحميل المشتركين نفقات معالجة مياه الصرف الصحي في هذه الظروف الصعبة». إذ أن كلفة تشغيل محطة زحلة، مثلاً، «تستوجب أن يدفع كل منزل موصول إلى الشبكة نحو 100 دولار شهرياً تشمل تبديل التجهيزات وصيانتها وكلفة المواد المستعملة والطاقة والخبرات اللازمة، فيما معدّل الجباية اليوم هو نحو 60 ألف ليرة لكل بيت زحلاوي»!
لا حلّ عملياً «إلا الصلاة»، وفق رزق، بعدما أرسلت المؤسسة كتباً إلى وزارة الطاقة والمياه. وهذه الأخيرة، بدورها، أرسلت كتباً إلى وزارة المالية، «ولكن لا مال… ولا جواب»!
التهديد بالتوقف عن العمل يشمل أيضاً محطتَي تكرير الصرف الصحي في إيعات وجب جنين. إذ أن المتعهدين اتصلوا بالمؤسسة «وقالوا لنا: دبروا حالكن!». أنشئت محطة جب جنين عام 2014، بقدرة تشغيلية تبلغ 10 آلاف متر مكعب في اليوم (على خطين) اي ما يوازي تكرير الصرف الصحي لـ ٧٧ الف نسمة. وهي حالياً ملزّمة لُزمت محطة جب جنين لـ«مؤسسة نزيه بريدي»، وتعمل على خط واحد بقدرة ٥ آلاف متر مكعب يومياً (معالجة ثنائية)، وتشير نتائج فحص العينات من المخرج ان المياه المعالجة غير مطابقة للمواصفات بنسب متفاوتة.
أما محطة إيعات فقد لزّم تشغيلها لعام 2021 إلى «مؤسسة سابا مخلوف» بحوالى 150 مليون ليرة، أي ما يوازي 10 آلاف لم تعُد تكفي لرواتب 20 موظفاً ومصاريف المحروقات والكلور والصيانة الأولية.
ومعلوم أنها أول محطة تكرير أُنشئت في لبنان عام 1998، وصُممت وفق معايير محدّدة لمعالجة النفايات المنزلية حصراً. وهي تعمل بطاقتها القصوى إذ يدخل إليها نحو 15 ألف متر مكعب من المجاري يومياً من مدينة بعلبك وضواحيها، تتضمّن نفايات صناعية من محطات البنزين ومصانع الألبان والأجبان ومعاصر الزيتون والمسالخ والمبيدات الزراعية… فتخرج منها المياه ملوثة غير صالحة للري أو لأي استخدامات أخرى، رغم معالجتها بالكلور وتذهب في المسيل الطبيعي الممتد إلى بلدة الكنيسة بطول 12 كيلومتراً. ويزيد الأمر سوءاً أن كثيراً من القرى التي تفتقد لشبكات المجاري، تصبّ مياه صرفها الصحي في المسيل، كما تصب بلدتا شليفا ودير الأحمر مياه الصرف في المسيل من دون معالجة لأن محطة تكرير دير الأحمر لا تعمل. وتضاف إلى ذلك مياه الصرف والنفايات الناجمة عن تجمعات النازحين السوريين. ورغم أن عمل المحطة لم يحُل دون استمرار التلوث، إلّا أن توقفها عن العمل سيؤدي إلى كارثة حقيقية مع إمكان أن تغمر مياه الصرف سهل الكنيسة بكامله!
مصادر مطّلعة على ملف الصرف الصحي تعزو كل هذه المشاكل، فضلاً عن ارتفاع سعر صرف الدولار، إلى الفوضى العارمة التي لطالما تحكّمت بهذا القطاع. إذ أن «كل المؤسسات اشتغلت في المجارير، من وزارة الإسكان في التسعينيات، مروراً بوزارة البلديات، إلى مؤسسات المياه ووزارة الطاقة، المؤسسات الدولية ومجلس الإنماء والإعمار… كل ذلك من دون أي دراسات لإنشاء خطوط تجميع الشبكات إلى المحطات». كما أن كل هذه الإدارات والجهات المانحة «لم تلحَظ كلفة تشغيل المشاريع وصيانتها بطريقة مستدامة، وربط ذلك بنظام ضرائبي ومالي يستعيد كلفة الصيانة والتشغيل».
وهو ما يؤكّده المدير العام للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية بأن «المشكلة الكبرى في محطات الصرف الصحي في البقاع أنه لا يوجد لدى وزارة الطاقة والمياه ما يسمّى بالمخطط التوجيهي للصرف الصحي الذي يبيّن كيفية معالجة مياه الصرف الصحي، ما أدى إلى الفوضى وتشعّب المسؤوليات بين الجهات المانحة ومؤسسات مياه البقاع والبلديات والوزارة ومجلس الإنماء والإعمار». ويلفت إلى أنه، على عكس الحوض الأدنى لليطاني، فإن «منطقة الحوض الأعلى تقوم على قاعدة مركزية المحطات، بمعنى تجميع أكبر عدد من المناطق ووصلها بمنظومات ضخ في حال لم تخدم الجاذبية من أجل تجميعها في محطات كبرى تصبّ في المحطات. وهذا يعني زيادة كلفة التشغيل واستهلاك الطاقة الكهربائية، واحتمات أكبر بالتعرّض لمشاكل تقنية، ما يشكّل تهديداً بيئياً في حال أصاب عطل أي محطة. في حين أثبتت التجرية في البقاع الغربي أن المحطات الصغرى أكثر استدامة وأقل كلفة وأقل استهلاكاً للطاقة».
واقع الحال أن مؤسسة مياه البقاع بقدراتها الضعيفة، غير قادرة على تشغيل محطات الصرف الصحي. وهي حالياً تؤمّن التمويل لتشغيل محطتَي أبلح وإيعات «فعلياً، مش عم يشتغلوا، لكن هناك متعهداً يقبض لأن هناك عدداً هائلاً من العمال عليه دفع أجورهم» بحسب علوية. أما وزارة الطاقة والمياه فغائبة كلياً عن السمع، وتكتفي بإرسال الكتب إلى وزارة المالية.
يُشار إلى أن وكالة التنمية الأميركية (USAID) و«يونيسيف» تعملان حالياً، عبر شركة «كيمونكس»، على تطوير محطة إيعات لتصبح ملائمة لمعالجة النفايات الصناعية ومحطة عيتنيت (البقاع الغربي) بكلفة مليوني دولار لكل منهما. إلا أن ذلك لا يشمل أكلاف التشغيل والصيانة التي تبقى على عاتق مؤسسة مياه البقاع العاجزة. أما الأشغال في شبكات ومحطات موجودة على المخطط التوجيهي فمتوقّفة… إلى أجل غير مسمى!