في مثل هذا اليوم مات الأبد

طارق اسماعيل

قبل 21 عاماً، مات الأبد. كان في حافظ الأسد كل ما يشي بأنه لا يموت حين تستسلم ذاكرة يافعة، كذاكرتي، للطقوس التي صنعت أبدية الرجل، وهو من يُذكر في يومياتنا أكثر من الله.

في عصر اليوم العاشر من حزيران/ يونيو 2000 مات حافظ الأسد، وهو موت كان ليلتبس على ذاكرة كثيرين من كارهي الرجل، كما محبيه، لولا أن الناعي هو مروان شيخو كبير مقدمي التلفزيون العربي السوري.

التباس موت الأسد صنعه تدجين هائل لذاكرة جماعية سورية- لبنانية عن رجل نادراً ما ذكر اسمه بلا مرادفة “الأبد”، والأخير ليس سوى مفهوم زمني لا يحتمل التأويل، فالأبد هو الأبد.

حافظ الأسد، ومنذ منتصف سبعينات القرن الماضي، صار الرجل الأكثر حضوراً في يوميات اللبنانيين، ناهيك بالسوريين، وهو حضور لا يمكن أن تكتب السياسة اللبنانية إلا طوعه.

كان سليل البعث، تلميذاً نجيباً لإيديولوجية تتقن صنع الشعارات التي تُساق في خدمتها، وهو في سياق سيطرته على لبنان، باشر هذه (النجابة) التي أسست تالياً لحكمه الفعلي للبلد الذي كان يراه ملاذاً لمشاريع الانقلابات التي طبعت سيرة سوريا قبل وصوله إلى حكمها.

“شعب واحد في دولتين”، و”ما بين لبنان وسوريا صنعه الله ولم يصنعه البشر” شعاران أسسا للبنان أسدياً، وتحديداً في العشرية الأخيرة من القرن الماضي، وقد تحولا فعلياً إلى واقع قسري عاشه لبنانيون كثر. لكن الشعارين المذكورين، والذين أتاحا له تكريس سيطرته المطلقة على لبنان، أفضيا لاحقاً إلى الحتمية التي تنتهي إليها البلاد التي تسوسها تلك الأيديولوجيات البائسة، فبدت صنائع البشر الذين مثل الأسد نموذجاً ساطعاً عنهم، الأكثر عبثاً في صنائع الله وألطافه المفترضة عن مشقة الأخوة، فيما أقام استبداده بين ظهرانينا، وباسم المواءمة بين شعبَي البلدين، كرهاً هائلاً حمله اللبنانيون، وغالباً بدون حق، ضد السوريين، ولم تخف وطأته إلا حين باشر السوريون ثورتهم ضد وريثه، وفي اكتشاف متأخر عن عطب في ذاكرة لبنانية لطالما رأت في السوري، أي السوري، ظلاً لحافظ الأسد.

   استقواء الأسد علينا وعلى ذاكرتنا العصية على مواراته في النسيان، وبعد أكثر من عقدين من وقوعه في طوية الموت، كثَّفه ارتهان معظم السياسيين اللبنانيين لمشيئته، في تعبير صارخ عن إرادة مسلوبة سهلت عليه إنجاز احتلاله المموه بشعارات المصير والمسار المشترك، وصارت حروبنا وانتصاراتنا تُقدَّم له قرابين طاعة وولاء، وضاعف من استعصاء فعل الموت على الذاكرة، ما انتهى إليه الناعي في ذلك اليوم وهو يلقينا، لبنانيين وسوريين، على مذبح الوراثة الأسدية.

قبل 21 عاماً، مات الأبد. كان في حافظ الأسد كل ما يشي بأنه لا يموت حين تستسلم ذاكرة يافعة، كذاكرتي، للطقوس التي صنعت أبدية الرجل، وهو من يُذكر في يومياتنا أكثر من الله، حتى توهمنا أنه مسخ إله حين تواطأت على ذاكرتنا سيرته المتورمة (بالفضائل)، فيما أبَدِيته كانت درساً ثقيلاً نتهجّاه على جدران المدن والقرى التي أورثت أعيننا التباساً عن الحد بين “البعث” والعبث.

 “قائدنا إلى الأبد” كانت مشقة السوريين وقدرهم البائس، فصدَّقوا، ونحن معهم صدَّقنا صناعة الأسطورة التي اختزلت سوريا باسمه، فكيف يموت؟

Exit mobile version