العميد الركن خالد حماده -اللواء
إنّ البحث عن نقطة تحوّل في السقوط المتسارع للدولة في لبنان أضحى من قبيل الإستحالة، فاللبنانيون جميعهم ومعهم المتحلقون حول مقامات ومواقع سياسية لا تنضح إلا نفاقاً، متأهبون للدخول في ظلمة شاملة، بعد الإنهيار الإقتصادي والصحي والتمويني والتعليمي ومشهد القحط السياسي اليومي المتكرر. فقدت هذه المنظومة الحدّ الأدنى من الإحترام ليس على مستوى الممارسة التي لا ينقسم حولها اللبنانيون بين مؤيّد ومعارض، بل على مستوى إحترام الذات بالمعنى الشخصي للكلمة. إنّه حكم الحثالة على المستوى السياسي والقيّمي والإنساني.
كلّ الصيّغ المطروحة لتشكيل الحكومة لا تعني شيئاً، فأي إنجاز يمكن أن تحققه حكومة في ظلّ منظومة فاسدة وفاشلة وعاجزة عن استعادة إحترام المجتمع الدولي أو العربي أو إكتساب صدقيّتهما. يعبّرالموفدون والوسطاء، من عرب وغربيين، العاملون على الملف الحكومي عن حالات القرف والإشمئزاز التي يشعرون بها، ويقفون مشدوهين أمام حجم اللامبالاة وبشاعة النزق الذي يمارسه أهل السلطة. الطبقة السياسية في لبنان منقسمة بين أمراء الطوائف، فمنهم من يحاول بعث الحياة في إقطاع قديم، ومنهم من يستند الى ثأرية تاريخية من إقطاع تاريخي ومن بؤس يريد تعويضه، وهنا تكمن عقدة تحويل الماضي إلى سجن للسياسة أو جعلها نتاجاً حتمياً له.
أنّ التحالفات التي نسجها العماد ميشال عون منذ عودته الى لبنان كان هدفها إسقاط الدستور. وما الإلتفاف على خطاب الأعوام 1988 وسنوات الإقامة في باريس الذي بدأ منذ العودة الى لبنان العام 2005 وتوقيع ورقة التفاهم مع حزب الله إلا بداية مسار للعودة الى جمهورية طائفية ولّى زمانها. وعلى هذا المسار تندرج كلّ المناورات الرئيسية ومن ضمنها الصفقة الرئاسية وقانون الإنتخابات، التي أفرغت الجمهورية من الداخل وأسقطت المؤسسات والقضاء. وبهذا المعنى أصبح الإستشراء في الفساد والتسيب المتعمّد سلاحاً مزدوجاً يُسهم من جهة في إفشال كلّ مظاهر الدولة ويهيء الظروف المادية والدولية للإنقضاض على الجمهورية في اللحظة السياسية المناسبة من جهة أخرى.
لقد تراءى لفريق الرئيس عون أنّ الشراكة مع حزب الله كافية لإسقاط الدستور، وربما راود هذا الحلم الشريك الذي عبّر مراراً على لسان أمينه العام عن ضرورة تغيير النظام الذي فشل في تثبيت مشروع الدولة في لبنان. لكن مراقبة واقعية لهذا التحالف تثبت أنّ الإتّفاق على إسقاط الجمهورية لا يعني الإتّفاق على إعادة بنائها وفقاً لنموذج متّفق عليه. يريد حزب الله تطبيق النموذج العراقي وريما النموذج اليمني والسوري في لبنان، ويريد الرئيس ميشال عون نسخة من الجمهورية الأولى تحميها معادلة أمنية سياسية تشكّل الجمهورية الإسلامية والنظام السوري نقطتيّ قوتها. الثلث المعطّل ليس السقف الذي يرومه حزب الله هو الذي يسيطر على الجمهورية عن بكرة أبيها ولا يعنيه تغيير النظام في لبنان على أساس الأحقيّة التاريخية للطائفة المارونية في الإنتساب إلى المشروع التأسيسي للبنان، بل ما يهمه هو الوظيفة التي تقدّمها هذه الجغرافيا في خدمة مشروع الجمهورية الإسلامية، وفي هذا أكثر من مأزق لحزب الله وأكثر من نقطة خلاف تؤكّدها الظروف العسيرة التي يعيشها الحلف المترنح كل يوم.
إنّ توهّم القدرة على إسقاط الجمهورية الثانية وإنتاج ظروف لبنانية تُفضي إلى مؤتمر دولي، تنمّ عن تبسيط للظروف التي أملت التوصّل الى اتّفاق الطائف في 22 تشرين الثاني / نوفمبر 1989. الدستور الجديد الذي وقّع في حينه أتى بعد أربع سنوات من توقف العمليات العسكرية في لبنان عاش خلالها اللبنانيون في ظلّ إدارات مدنيّة أقامتها أحزاب الأمر الواقع. إستدعاء اللبنانيين إلى الطائف لمناقشة التسويّة السياسية والتوقيع عليها، لم يكن سوى تفصيلاً في مسلسل من الأحداث والمتغيّرات ابتدأت مع إنتخاب الرئيس جورج بوش في 7/11/1988 واعتراف منظّمة التحرير بحق إسرائيل بالوجود في نهاية العام بعد إعلان ياسر عرفات دولة فلسطين في 14/11/1988، وإنهاء إحتلال الكويت وتدمير القدرة العسكرية لصدام حسين حليف العماد عون وياسرعرفات. كلّ ذلك كان من ضمن التسويّة بين العرب وإسرائيل التي عرفت مسارها السياسي في مؤتمر مدريد 1992 الذي أنهت بموجبه منظّمة التحرير الحرب مع إسرائيل في 9/9/1992 واعترفت بها، ووقعت إتّفاقية أوسلو في 13 أيلول / سبتمبر 1993، وليبدأ بعدها إنسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة.
وفيما تتقاطع ظروف إقليمية ودولية تنذر بتسويات مرتقبة، تفترض التجارب المريرة التي عرفها لبنان الإدراك أنّ الإمعان في تحويل الطوائف من حالة دينية ومذهبية إلى كيان سياسي لن يفضي إلى فرض الشروط على المجتمع الدولي بل إلى البقاء وربما الإنتحار في ردهة الإنتظار الدولي على وقع نماذج مستحدثة من الأمن الذاتي.
العميد الركن خالد حمادة
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات