تحقيقات - ملفات

أربعة أصدقاء يودّعون خامسهم على وقع الاحتفال بعهد جديد للسفاح

جوان سوز

رغم أن تصريحاته استهدفت مقربين من إردوغان إلا أن بكير بدا في كل مقاطع الفيديو التي ظهر فيها حريصاً على تحييد الرئيس التركي عن كلّ الجرائم التي قام بفضحها

يثير زعيم المافيا التركي الشهير سادات بكر، جدلاً واسعاً داخل تركيا وخارجها بعد سلسلة مقاطع فيديو بدأ نشرها منذ أسابيع على موقع “يوتيوب”، وهو ما يهدد زعامة رجب طيب أردوغان الذي تقول استطلاعات الرأي إن دعم حزبه الى تراجع.

شرع المافيوي سادات بكر بنشر تصريحات يقول إنها “فضائح” تطاول حاشية أردوغان، من تهريب المخدرات والاغتيالات السياسية والاغتصاب إلى اتهامات بالتدخل في الإعلام وفساد على أعلى مستوى في البلاد، محذّراً بعدها الحكومة من استخدام تكتيكاتٍ شيطانية ضده، بعد نحو شهرٍ من قيام السلطات التركية بحملةٍ أمنية استهدفت من خلالها رجاله.

خلفت فيديوات بكر التي حصدت مشاهدات بالملايين ارتباكاً واسعاً، خصوصاً ما تحدث عنه من صلاتٍ وثيقة تربطه بكبار المسؤولين، بما في ذلك وزير الداخلية الحالي سليمان صويلو، إلى جانب اتهاماته المباشرة التي وجهها لوزير الداخلية الأسبق محمد آغار ونجله، إضافة إلى أركان يلدريم نجل آخر رئيسِ وزراءٍ تركي، وآخرين. إلا أن هؤلاء نفوا مزاعم زعيم المافيا وتقدّموا جميعاً بشكاوى قضائية بحقه بتهمة “تشويه السمعة”.

بكر وعمره 49 سنة، معروف لدى الرأي العام التركي، إذ يعدّ من ركائز عالم الإجرام في تركيا، وتعرض للمحاكمة مرات عدة بتهم القتل العمد والشروع في القتل والاختطاف وأدين “بتأسيس منظمة إجرامية”، قبل أن ينجح في تمريرات قانونية بالاستفادة من الإفراج ومغادرة تركيا. وكان الإفراج عن بكر لغزاً إذ كيف تمكن من يملك سجله الاجرامي من الإفلات من السجن، لكن وفقاً لبكر فقد قامت الحكومة التركية بحمايته من الملاحقة لسنوات ووفرت له سبل الفرار.

في فيديواته اتهم بكر الاستخبارات التركية بإرسال شحناتِ أسلحة إلى تنظيم “جبهة النصرة” (ذراع القاعدة في سوريا) عبر شركة “صادات” الأمنية التي يرأسها مستشار سابق للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وهو أول اتهام يوجهه زعيم المافيا يتعلق بسياسة أنقرة الخارجية، وذلك بعد كشفه لما يقول إنه خبايا السياسة الداخلية في 7 مقاطع سابقة، والتي على إثرها أصدرت السلطات مذكرة اعتقالٍ غيابية بحقه يوم 28 أيار/ مايو الماضي.

وفي المقاطع التي سبقت الفيديو الأخير، بيّن بكر أن وزير الداخلية الحالي صويلو قدّم له خدماتٍ حكومية في وقتٍ سابق، إلى جانب معلومات أمنية عن تخطيط السلطات لاحتجازه، وهو ما دعاه للهرب إلى خارج تركيا العام الماضي. كما كشف زعيم المافيا أن وزير الداخلية الأسبق محمد آغار استعان به من أجل اغتيال صحافيين اثنين أحدهما قبرصي والآخر تركي في تسعينات القرن الماضي، علاوة على شخص ثالث هو رجل الأعمال الكردي ساواش بولدان، زوج الرئيسة المشاركة الحالية لحزب “الشعوب الديمقراطي” المؤيد للأكراد والذي اغتيل أيضاً في التسعينات.

هزّت هذه المعلومات الأمنية الشارع التركي والحكومة التي يقودها حزب “العدالة والتنمية” مع شريكه حزب “الحركة القومية” اليميني المتطرّف، لكن مع ذلك لم تقدم السلطات حتى الآن على إجراء تحقيقاتٍ مع أولئك المسؤولين الذين اتهمهم بيكير بارتكاب عمليات القتل وسوء استخدام السلطة والاتجار بالمخدرات وتهريبها وغيرها من الاتهامات الخطيرة التي كشفها على العلن، حيث وجه تهمة تجارة المخدرات إلى أركان يلدريم، نجل آخر رئيس وزراءٍ تركي.

في المقابل، يستمر أولئك المسؤولون في نفي مزاعم زعيم المافيا وتقديم شكاوى قضائية ضده في المحاكم التركية بتهمة “تشويه السمعة”، والمؤكد الوحيد أن قضية اغتيال الصحافي التركي أوغور مومجو ورجل الأعمال الكردي بولدان قد يعاد فتحها من جديد بناءً على طلبٍ من عائلة كلا الضحيتين.

أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فاكتفى بالتعليق على الضجة الحاصلة إثر فيديوات بكر الذي اعتاد على تأييده علناً في الحملات الانتخابية برفع شارة منظمة “الذئاب الرمادية” بيد وشارة “رابعة” باليد الأخرى، قائلاً: “إنه لمن دواعي الأسى أن نرى في بلدنا أناساً بائسين يحصلون على المساعدة من عصابات المافيا”، دون أن يفند ما كشفه أو يعلن عن إجراء تحقيقات عن تلك المعلومات أو يقيل وزير داخليته المتهم بتقديم تسهيلاتٍ لبكير، على رغم أن حزب المعارضة الرئيسي وهو “الشعب الجمهوري” طالب بذلك صراحةً.

كذلك لم يستجب القضاء التركي للدعوى القضائية التي تقدّمت بها نقابة المحامين الأتراك التي طالبت بإجراء تحقيقاتٍ شاملة مع كل المسؤولين الذين اتهمهم زعيم المافيا. وأيضاً لم يقدم البرلمان التركي على إجراء تحقيقاتٍ للبت في صحة الاتهامات التي وجهها بكر لكبار المسؤولين في البلاد. واكتفت الحكومة بإصدار مذكرة اعتقال غيابية بحقه.

وعلى رغم أن تصريحاته استهدفت مقربين من إردوغان إلا أن بكير بدا في كل مقاطع الفيديو التي ظهر فيها حريصاً على تحييد الرئيس التركي عن كلّ الجرائم التي قام بفضحها على العلن، متوعداً بالإستمرار، وذلك في محاولة لإبقاء باب التفاوض مفتوحاً مع حاكم البلاد وهو ما يعني فعلياً إمكان وصول أردوغان إلى تسوية مع زعيم المافيا في المستقبل، إن لم يقم الأخير بكشف أسرارٍ خطيرة عن رئيس بلاده كما فعل مع كبار المسؤولين في حكومته.

واللافت أكثر في ما يحصل، أن معارضين ومنتقدين لأردوغان تعرّضوا لهجماتٍ بالأسلحة البيض والنارية في الأشهر الماضية في اسطنبول وأنقرة، لكن السلطات لم تقف ضدها، على رغم أن كلّ الذين واجهوا الاعتداءات الجسدية اتهموا حزب “الحركة القومية” بالوقوف خلفها وهو الحزب الذي يعد بمثابة الواجهة السياسية لتنظيم “الذئاب الرمادية” المتطرّف، والداعم الأكبر لزعماء المافيات التركية. وكان من بين أولئك الذين تعرّضوا لهجمات سلجوك أوزداغ، المسؤول البارز في حزب “المستقبل” الذي يقوده رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، إضافة إلى زميله في الحزب آيهان سفر اوستن، إلى المعلق السياسي المعروف لافنت غولتكين وآخرين.

ولم يوجه الذين تعرّضوا للاعتداء على يدّ أشخاصٍ مجهولين، اتهاماتهم جزافاً لحزب “الحركة القومية”، بخاصة أن زعيمه دولت بهجلي يصف عرّاب المافيا التركية علاء الدين تشاكجي بـ”الصديق والشقيق”. وقد قام بهجلي بزيارة الأخير في سجنه علناً قبل أن تقوم أنقرة العام الماضي، بإطلاق سراحه ضمن عفو عامٍ مثير للجدل. وبالتالي ليس مستعبداً أن تكون المافيا هي التي تقف خلف تلك الاعتداءات نيابةً عن “الدولة العميقة” في تركيا.

في غضون نشر مقاطع الفيديو التي ظهر فيها بكر، قام علي تشاكجي، نجل عرّاب المافيا بتهديد الوزير السابق ومؤسس حزب “الديموقراطية والبناء” علي باباجان بالقتل بعدما انتقد الأخير العفو المثير للجدل والذي بموجبه أُخرِجَ والده من السجن. ومع ذلك كلاهما طليق حتى اللحظة، على  رغم أن الأب كان هدد أيضاً زعيم المعارضة التركية كمال كليتشدار أوغلو بالقتل قبل أشهر. وكذلك لم تتحرك السلطات في شهر نيسان/ أبريل الماضي، عندما قام برلماني من حزب “الجيد” القومي بتهديد غارو بايلان بالقتل، وهو نائب أرمني عن الحزب المؤيد للأكراد.

مسؤول بارز في حزب “الديموقراطية والبناء” يقول لـ”درج”: “لسوء الحظ، شهدت تركيا الكثير من أمثلة العنف السياسي في العام الماضي وأيضاً الحالي. فقد تعرّض بعض قادة الأحزاب للضرب في الشارع، وكذلك تعرض آخرون للاعتداء بمزاعم من قبيل أنهم أهانوا بهجلي. وتكرر الأمر ذاته مع عدد من الصحافيين”. وأضاف محمد أمين أكمن نائب رئيس الحزب الذي يقوده باباجان أن “زعماء مافيا قاموا بتهديد قادة الأحزاب السياسية علانيّة، لكن لم يتمّ إجراء أي تحرك فعّال بشأنها، ولم يتمّ اعتقال الجناة، بل تسامحت معهم السلطات من دون إجراء تحقيقاتٍ معهم”. وتابع: “أولئك الذين ينفذون هذه الهجمات يمكن أن يكونوا عصابات المافيا. وحتى إذا تمّ سن قانون خاص لقادة المافيا، فمن غير المعقول أن يخاف هؤلاء الناس من سلطة القانون. تمرُّ تركيا حالياً بمرحلة تتقاطع فيها المافيات مع الدولة في السياسة والتجارة، وتذكّرنا بمرحلة التسعينات”.

“الدولة العميقة” في تركيا، كانت قررت في تسعينات القرن الماضي، الاستعانة بالمافيات سراً في محاربة حزب “العمال الكردستاني” من أجل الاستيلاء على أموال رجال الأعمال الأكراد وتصفية النشطاء منهم أو اليساريين الأتراك. لكن الواقع الراهن في البلاد يختلف كلياً عن تلك الحقبة، فالتحالف الحاكم المكوّن من حزبي “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية” قد فرض على البلاد هيكلية سلطوية جديدة تتداخل فيها المافيات مع السياسة بشكل فاضح ومكشوف.

وبالتزامن مع تهديد باباجان بالقتل، تعرّض المقرّ الرئيسي لحزب “الشعوب الديموقراطي” قبل أكثر من أسبوعين لهجوم من مجهولين لم تلقِ السلطات القبض عليهم، على رغم وجود الشرطة بالقرب من المكان، كما جاء في نصِ بيانٍ مكتوب للحزب.

سيزاي تميلي، النائب في البرلمان التركي والرئيس المشارك السابق للحزب المؤيد للأكراد يقول لـ”درج”: “عندما تمَ فرض حظر التجول في البلاد خلال شهر أيار/ مايو، قام ثلاثة أشخاص، يمكن التعرف إلى هوياتهم ببساطة من تسجيلات كاميرات المراقبة، بمهاجمة مقرّ حزبنا. وعلى رغم وجود نقطة تفتيش للشرطة بجوار المبنى، إلا أنها مكنتهم من الهروب بسهولة بدلاً من منعهم واحتجازهم”. وأضاف: “تقوم السلطات بمداهمة منازل أشخاصٍ عند الصباح الباكر بسبب كتاباتهم الناقدة للحكومة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن من ناحية أخرى هناك مجموعات وعصابات شبه عسكرية تهدد زعيم حزب سياسي بالقتل ولا تتحرك الأجهزة الأمنية. لقد حصل هذا عندما هدد نجل تشاكجي، باباجان بالقتل. وكذلك تكرر الأمر حين لم تتحرك السلطات عند الهجوم على مقرّ حزبنا”.

بحسب تميلي فإن المحاكم لا تأخذ الشكاوى الجنائية المقدمة ضد التهديدات بالقتل والاعتداءات الجسدية على محمل الجدّ، مطالباً بقية الأحزاب التركية المعارضة بـ”التفاعل مع مثل هذه الهجمات بغض النظر عن هوية الشخص المهاجم وضحاياه”. وذكر أيضاً: “لو وقفت الأحزاب المعارضة، بعد 7 حزيران/ يونيو 2015، ضد الهجمات على مباني حزب الشعوب الديموقراطي وحرقها عمداً، ولو اعترضت على اعتقال الرؤساء المشاركين لبلديات حزبنا ونوابنا المنتخبين في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، لما كان الجناح الحاكم يتحلى اليوم بالشجاعة لمهاجمة المعارضة بأكملها”.

تميلي لفت إلى أن “وزير الداخلية الحالي لديه صور مع أشخاص ارتكبوا جرائمٍ في الماضي”، مشدداً على “وجود منظمات إجرامية تورطت في الهجمات ضد شخصيات المعارضة بتواطؤٍ حكومي”. ولم يستبعد المسؤول البارز في الحزب المؤيد للأكراد، استمرار هذه الاعتداءات، قائلاً: “الحكومة ستبقى تقف مكتوفة الأيادي حيالها ولن تتحرك لإيقافها”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى