بانة بيضون
تبدو ابتسامة الجسد المقيّد بارزة وكأن كل شيء على ما يرام، إنها ابتسامة عدم الاعتراف بالمعتدي، ليتحوّل إلى مجرد شبح، على رغم كل ما يملكه من أسلحة وعتاد وفائض قوة.
الشباب المقدسيون والمقدسيات وفي انتفاضتهم ضد التهجير القسري لعائلات حي الشيخ جراح الذي ليس سوى استكمال لمشروع الاستيطان الإسرائيلي للاستيلاء على ما تبقى من القدس، مقيدون إلى الأرض غير مسلحين إلا بابتسامة ساحرة تجعلنا ننسى عنف المشهد لبرهة، قالبة كل تأويل ممنهج للصورة.
ما تشي به الصور عادة وبلا جهد هو أوضح من محاولة نص الأفكار والمفاهيم. في هجوم كتيبة من الجنود الإسرائيليين بأسلحتهم وعتادهم على رجل أو امرأة أعزلين، هناك طبعاً ما يعبر عن درجة القمع والعنف الممارس، لكن أيضاً تبدو وجوه الجنود مذعورة ولا سبب منطقياً لذلك. في المقابل، تبدو ابتسامة الجسد المقيّد بارزة وكأن كل شيء على ما يرام، إنها ابتسامة عدم الاعتراف بالمعتدي، ليتحوّل إلى مجرد شبح، على رغم كل ما يملكه من أسلحة وعتاد وفائض قوة. تلك الصورة تجسد كل الواقع الملتبس لمحكمة احتلال ومستوطنين حججهم شبحية تماماً بقدر ما تقوم على كره “الفلسطيني”، كره هو وجه آخر للذعر الذي يقارب البارانويا. فوجوده بحد ذاته يناقض الأسطورة الكبرى التي صممت على أساسها حجة وجود المستوطنين، فالأحقية التاريخية بالأرض المستمدة من الموروث الديني المؤدلج والتي تشبه الخرافة، تسقط عند الأحقية الراهنة والفعلية لصاحب الأرض أو البيت الفعلي. وبخلاف أن المحكمة أيضاً التي يراد لها أن تعكس وجه إسرائيل الديموقراطي/ الخرافي، حكمت بأن الأراضي في حي الجراح تعود إلى مالكيها الأصليين في أواخر القرن التاسع عشر (1885) أي قبل 136 عاماً وهما منظمتان يهوديتان قامتا بالادعاء.
الفلسطينيون يقولون كلمتهم اليوم في رفض الموت البطيء، قد يحمل لنا ذلك الصدى بعض النفس والأمل في أوطاننا التي لم نزل نتجرع خيباتنا المرة فيها.
السخرية بالطبع أن ما أتاح تلك المحاكمة هو قانون عنصري يجيز للإسرائيليين دونما الفلسطينيين المطالبة بما يدعون أنها كانت ممتلكاتهم قبل خسارتها عام 1948. وهنا يظهر التناقض في وجهه الأبرز، في محاولة إسرائيل تبرير طرد الفلسطينيين من القدس عبر هذا القانون. لو طبق هذا القانون كما يجب أي سواسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين لكان انتفى وجود إسرائيل أساساً. فإذا عدنا إلى القرن التاسع عشر، سنجد أن مجمل الأراضي كانت تعود إلى الفلسطينيين مقارنة باليهود العرب الذين كانت نسبة تملكهم الأراضي شبه معدومة (مصدر الدراسة الأمم المتحدة). وفي محاولات إسرائيل الترويج لحداثتها وديموقراطيتها الخرافية، لا يكون أثر ذلك سوى تأكيد الهوية التي تحاول التملص منها كدولة احتلال وفصل عنصري، ولا يبدو هذا الاستيطان والاحتلال المتمدد منذ عقود إلا كتعبير عن مفهوم دولة، لا تستمد هويتها سوى من الاحتلال نفسه ولم تنجح في إرساء جذور غير شبحية مع هذه الأرض.
يكفي أن نشاهد المستوطنين الإسرائيليين الذين يتبنون خطاب التطهير الديني والعنصرية كتبرير لاحتلال ممنهج، كي نستوعب ما تقوم عليه إسرائيل فعلاً. يقول المستوطن الإسرائيلي يعقوب لسيدة فلسطينية تدعى منى بعدما استولى على بيتها وطردها منه بالقوة: “نعم ليس هذا بيتي، لكن إن لم أسرقه، فغيري سيسرقه ولن تعودي إلى بيتك، إنه ليس لي كي أعيده لك”. في كلام يعقوب وطبعاً لا داعي للتوقف عند حقارته، الكثير مما هو معبر، إنه يدرك جيداً عدم انتمائه لهذا البيت الذي استولى عليه بالقوة لكن ليس هذا ما يهمه، الهدف المرتجى هو قطع صلة الفلسطيني ببيته وأرضه. ومن هنا يستمد هويته ومبرر وجوده، من محاولة إلغاء أثر الفلسطيني، فيعقوب وبلسانه لا ينفي كونه غريباً في هذا البيت المحتل، الذي لا تربطه به أي علاقة، بخلاف أنه مستوطن أي يمكن استبداله بآخر.
هذا الاستطراد لا يعني أن المستوطنين سذج أو أغبياء أو أبرياء، إنهم جنود ببساطة ويمارسون في الحقيقة ما هو أكثر عنفاً ربما على الفلسطيني من القتل والاعتقال والنفي الجسدي، إنه نفي حقيقة عالمهم. تخيل أن تستفيق ذات يوم وقد طردت من منزلك فيما من طردك وأخذ مكانك يخبرك ويحاول إقناع العالم بأن ذلك البيت لم يكن لك أساساً. إذا ما استذكرنا نازية هتلر فإن أفظع ما فعلته أثناء التطهير العرقي هو ادعاء أن أولئك الأشخاص لم يكونوا أساساً. تذكرني الهوية الملتبسة للمستوطنين بمفهوم المحاكي أو الصورة الخادعة عند جان بودريار في كتابه “التشبيه والمحاكاة “، فهو ماهية تحاكي الشيء. وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن “ساكن البيت أو محتله”، لكن هذه الصورة لا تلغي حقيقته. فالمحاكي هنا لا يخفي الحقيقة، لكنه خلاء الحقيقة الذي يتخفى خلفه المحاكي. هنا يكمن كل الفرق بين من يدرك بالفطرة واليقين أن ذلك بيته وموطنه وتلك حقيقته، ومحتل يحاول إثبات علاقته الشبحية بهذه الأرض وكلما حاول أكثر برزت هشاشة هذا الرابط أكثر وأكثر.
السخرية بالطبع أن ما أتاح تلك المحاكمة هو قانون عنصري يجيز للإسرائيليين دونما الفلسطينيين المطالبة بما يدعون أنها كانت ممتلكاتهم قبل خسارتها عام 1948. وهنا يظهر التناقض في وجهه الأبرز، في محاولة إسرائيل تبرير طرد الفلسطينيين من القدس عبر هذا القانون.
وهل تستطيع ورقة من محكمة أياً كانت أن تقنع منى بأن ذلك ليس بيتها؟ أو أن تقنع أي شخص بأن ذلك بيت المستوطن الإسرائيلي “يعقوب” أو حتى يعقوب نفسه هل يمكن إقناعه؟ المعركة التي يخوضها المقدسيون والمقدسيات اليوم لا تقتصر على حي الشيخ جراح، إنها الوقوف ضد مشروع استيطان سبق وجوده حتى 1948، ومستمر إلى الآن. أما الإسرائيليون وفي استكمالهم هذا المشروع فهم يؤكدون أن إسرائيل وفي نواة تكوينها كانت وستبقى دولة استعمار وفصل عنصري ولم تنجح طوال عقود من الزمن في أن تكتسب هوية مختلفة عن تلك، على رغم الجهود المبذولة لترويج ما هو عكس ذلك، أي مفهوم الحداثة والديموقراطية الخ…. تحت قبة المسجد الأقصى الذهبية معارك طاحنة واشتباكات بين الفلسطينيين العزل وكتائب الجنود الإسرائيليين، دخان يتصاعد بما يتراءى للمرء أنها معركة ملحمية وهي كذلك بالفعل بالنسبة إلى الفلسطينيين.
وفيما العرب يتغنون بالأقصى ويستنكرون، يدرك الفلسطينيون أنهم متروكون لمصائرهم وقد لا يكون ذلك أسوأ شيء حدث لهم بالفعل، فدفاع العرب عن القضية الفلسطينية غالباً ما تمحور حول طبيعة ارتباطهم الديني بالأقصى وتناسي الفلسطينيين بحد ذاتهم بصفتهم الجزء الأساسي من القضية. يبتسمون للكاميرا ويكملون المعركة وفي تلك الابتسامة المضيئة لهذا الجيل الجديد من الفلسطينيين ما يبدد ولو لبرهة تاريخاً طويلاً من القهر والمعاناة، كأنما “في آخر الأشياء” كما عنوان قصيدة درويش تبدو تلك الابتسامة وكأنها المخلص. نود لو نصدق ذلك فعلاً بلا أن نجمل بؤس الواقع. ما نعرفه أن هذا الجيل الجديد من الفلسطينيين لا تنقصه الشجاعة وقد كتب عليه أن يتصدى لما يبدو أنها المعركة الأهم في التاريخ الفلسطيني المعاصر وهو يدرك ذلك تماماً. وإن ما كان هذا النص قد سبقت كتابته التطور الذي شهدته الأيام الأخيرة وانتفاضة فلسطيني الداخل فكل ذلك يؤكد أننا أمام حدث مذهل، انتفاضة شعبية موحدة كانت كفيلة وفي خلال أيام إن لم يكن ساعات أن تخلق مشهداً مختلفاً، لم نشهد له مثيلاً من قبل، كأن يفر المستوطنون من اللد مثلاً وحتى الشرطة الإسرائيلية ولو اقتصر ذلك حتى على ليلة واحدة. ولا تنحصر استثنائية ذلك الحدث في طرد المستوطنين وسيطرة الأهالي، بل في انضمام من يسمونهم عرب 1948 إلى رحاب المقاومة الشعبية.
ما نستطلعه من ذلك أن كل سني الاحتلال لم تنجح في إقناع الفلسطينيين بهوية مغايرة، وأيضاً طوال تلك المدة لم تنجح إسرائيل في فرض أي هوية مغايرة لنفسها إلا ككيان محتل، وبالتالي كل ذلك يرجعنا إلى نقطة البداية لكنها قد تكون بالفعل بداية مختلفة، فإن لم تنجح إسرائيل في فرض نفسها إلا ككيان محتل، فللمفارقة إن الفلسطينيين وعلى رغم كل الشتات ومحاولات التجزيء والفصل العنصري، أثبتوا أنه ما زالوا شعباً بكل ما للكلمة من معنى. قد يبدو ذلك بدهياً عموماً، لكنه في الحالة الفلسطينية استثناء بالفعل. وبغض النظر عن أي رأي جانبي أو تخوف من مجازر أعظم، كلنا نعرف أن اسرائيل التي لا تملك أي رادع أخلاقي أو احترام للقوانين الدولية، هي كفيلة بارتكابها، لهذا الشعب المحتل الحق بالمقاومة والدفاع والرد بكل سبل النضال التي يختارها، وأعظم ما في الأمر أنه يدرك ذلك تماماً ولا ينتظر إذناً ولا دعماً من أحد. الفلسطينيون يقولون كلمتهم اليوم في رفض الموت البطيء، قد يحمل لنا ذلك الصدى بعض النفس والأمل في أوطاننا التي لم نزل نتجرع خيباتنا المرة فيها.