الأجواء الإيجابية التي تلت فترة حرب البيانات بين رئيس الجمهورية و«التيار الوطني الحر» من جهة وتيار «المستقبل» من جهة أخرى، تقتصر وظيفتها على التهدئة الإعلامية بين الطرفين. المطلوب الحد الأدنى من الهدوء، لكي يستمر الرئيس نبيه بري في مسعاه، هو الذي أكد أن «المبادرة التي أطلقها قائمة، ولن يتراجع عنها، بوصفها فرصة لن يكون مثلها، بل لن تتكرّر».
لكن هل فعلاً المبادرة قائمة؟ بحسب المعطيات المتوافرة، فإن تحركاً فرنسياً شهدته الأيام الماضية، حيث تواصل الموفد الفرنسي باتريك دوريل مع المعنيين بتشكيل الحكومة. لكن مصادر مطلعة أكدت أن اتصالاته كانت محصورة بالاستفسار عن التطورات، من دون أن يحمل أي اقتراح أو مبادرة جديدة. في المقابل، اتخذ رئيس المجلس، بالتعاون مع حزب الله، مجموعة من الخطوات لتفعيل مبادرته بعد تثبيت الهدنة بين التيارين الخصمين، من دون أن يعني ذلك زيادة التفاؤل بإمكانية إحداث أي خرق في المشهد الراهن. في الظاهر، فإن العقدة صارت محصورة بالوزيرين المسيحيين اللذين يفترض أن يكونا جزءاً من الثلث المحسوب على الحريري. كل الصيغ لتسميتهما وصلت إلى حائط مسدود، علماً بأن مصادر مطلعة أكدت أن البطريرك الماروني بشارة الراعي كان سمع من رئيس الجمهورية موافقة على صيغة تسمية الحريري لوزيرين يوافق عليهما الرئيس، لكن باسيل هو الذي رفض هذا الحل، على اعتبار أن في ذلك تثبيتاً للمثالثة التي يرفضها المسيحيون. وفي الإطار نفسه، كان نُقل عن بري عندما وصلته، عبر الخليلين (الوزير السابق علي حسن خليل، وحسين الخليل المعاون السياسي للسيد حسن نصر الله)، رسالة من الامين العام لحزب الله مفادها أنه لا يجوز ترك البلد على ما هو عليه هكذا، أبلغ الطرفين أنه سبق أن تجاوب الحريري مع مسعاه لكن باسيل لا يوافق على تسمية الحريري للوزيرين المسيحيين، طالباً العودة إلى التواصل معه مجدداً. وهو ما يفترض أن يحصل مع بداية الأسبوع.
يذكر أن باسيل كان وافق على توزيع الحقائب الذي اقترحه الحريري، باستثناء إيلاء حقيبة الطاقة إلى تيار المردة، التي أعطيت إلى حزب الله أو حركة أمل.وعلمت «الأخبار» أن حزب الله تواصل مع كل من الحريري وباسيل، قائلاً للأول بضرورة حل مشكلة الحكومة مع عون، واعداً بأن الثنائي لن يعقّد الأمور وليس لديه مطالب غير حقيبة المال لحركة أمل، ولن تكون هناك مشكلة ببقية الأسماء. أما باسيل، فحضّه الحزب على التعامل بإيجابية مع مبادرة بري، إذ «يجب عدم ترك المناخات السلبية تتحكّم بالمشهد». من جهته، نُقِل عن بري قوله إنه أعطى «سعد وجبران مهلة أسبوع أخير، وبعدها سيكون لي حديث آخر». بدوره، وضع البطريرك الماروني بشارة الراعي مهلة 10 أيام لتأليف حكومة، قائلاً إنه يرفض أن يتحدث أحد باسمه، و«أنا لا أريد التدخل في التسميات ولن يكون لي أيّ مرشح».
وبالرغم من التهدئة الإعلامية، وبالرغم من استمرار مبادرة بري، إلا أنه بدا واضحاً بالنسبة إلى مطلعين على مسار التشكيل أن الحريري، كما باسيل، يتعاملان مع الملف الحكومي من منطلق تأثيره على الانتخابات النيابية لا من منطلق السعي جدياً إلى تشكيل الحكومة. فقد سلم الجميع بأن حكومة يرأسها الحريري في عهد ميشال عون لن تكون متاحة، بسبب أزمة الثقة التي تباعد بينهما وتجعل أي تعاون، حتى لو أُلفت الحكومة، بعيد المنال؛ بمعنى أن تأليف الحكومة حتى لو أنجز فلن يكون كافياً لتتمكن من العمل في ظل هذه الأزمة. وهذا يشير إلى أن المطلوب من الملف الحكومي حالياً هو تجميع الأوراق وصولاً للاستحقاق الانتخابي الذي سيجري في موعده، أي بعد نحو عام. الحريري يريد تعزيز شعبيته في الشارع السنّي، مقتنعاً بأن الطريق إلى ذلك هو استمرار التصعيد مع باسيل، والأخير يريد أن يعزز شعبيته في الشارع المسيحي، معتمداً على إبداء الحرص على الدور المسيحي وحماية المناصفة.
لكن هل يمكن للبلد أن يصمد لمدة عام؟ المؤشرات الأولية تشير إلى أن الانهيار الشامل الذي كثر الحديث عنه لم يعد بعيداً، وما رفع الدعم أو تقليصه إلا إحدى شراراته؛ علماً بأن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قد بدأ عملياً تنفيذ ترشيد الدعم، لكنه بدأه بالمواد الأكثر أهمية، أي الدواء وفيول الكهرباء، بالتوازي مع اتفاقه وبري على تطيير قانون «الكابيتال كونترول»، ما يعني ترك حاكم مصرف لبنان متحكماً في مصير البلد والناس، من دون أي قيود قانونية.
وفيما لم تُحسم بعد مسألة فتح اعتمادات للأدوية التي دخلت إلى لبنان قبل أن يقرر تقليص الدعم، أدى رفض سلامة فتح اعتمادات لثلاث شحنات فيول لزوم معامل الكهرباء إلى كارثة على صعيد التغذية، حيث انخفضت التغذية خارج بيروت إلى ٥ ساعات، فيما لم تزد في بيروت على ٧ ساعات. وكانت المشكلة قد بدأت مع طعن نواب القوات اللبنانية في قانون الاعتماد الإضافي بقيمة ٣٠٠ مليار ليرة الذي أقرّه مجلس النواب لصالح مؤسسة كهرباء لبنان، والذي أوقف المجلس الدستوري تنفيذه إلى حين بتّ الطعن. حينها، جمّدت عمليات شراء الفيول، باستثناء شحنة واحدة وافق مصرف لبنان على فتح اعتماد لها، بعدما تأمنت كلفتها بالليرة بالتعاون بين وزارة المالية وكهرباء لبنان. لكن منذ ٢٦ أيار الماضي، حين أصبح القانون نافذاً، حتى اليوم، لم يوافق مصرف لبنان سوى على فتح اعتماد باخرة واحدة من أصل أربع تم الاتفاق معها، هي باخرة فيول (Grade B)، ستكفي عملياً لتشغيل معملي الزوق والجية القديمين لنحو ١٥ يوماً. لكن في المقابل، فإن نقص الفيول (Grade B) والغاز أويل إدى إلى إعلان المؤسسة تخفيض معدل الانتاج في معامل الزوق والجية الجديدين والزهراني ودير عمار، بما أدى إلى تخفيض إجمالي الطاقة المنتجة على الشبكة حالياً إلى 720 ميغاواط، بعد أن جرى تخفيضها تدريجياً خلال الأسابيع الماضية. المشكلة أنه حتى هذا الحد لن تستطيع المؤسسة الحفاظ عليه، إذ أكدت مصادرها أن مخزون الفيول أويل (Grade B) لن يكفي لأكثر من أربعة أيام. بعدها ستكون مضطرة إلى إطفاء معملي الجية والزوق الجديدين، فيما مخزون الغاز أويل لن يكفي لأكثر من أسبوع. عندها، ستنخفض التغذية إلى حدود ٣٠٠ ميغاواط، أي ما يعني اقتصار التغذية على ساعتين يومياً، علماً بأن ذلك سيؤثر على ثبات الشبكة الكهربائية واستقرارها، حيث ستؤدي أي صدمة كهربائية تتعرض لها إلى خروج المعامل كافة عنها، وبالتالي الوصول إلى العتمة الشاملة.
اللافت أن البديل، أي المولدات الخاصة، بدأت تشكو من عدم قدرتها على تعويض الفارق، أولاً لأنها لا يمكنها أن تعمل لفترات طويلة، وثانياً بسبب شح المازوت. ولذلك، أعلن ممثل تجمع أصحاب المولدات عبدو سعادة عن توجه للتقنين لمدة ٥ ساعات يومياً. وهذا يعني أن اللبنانيين، في حال لم يقم مصرف لبنان فوراً بتحرير الاعتمادات الخاصة بالبواخر الموجودة حالياً، سيكونون حتى عير قادرين على تعويض النقص بالتغذية من المولدات الخاصة؛ علماً بأنه حتى لو أفرج مصرف لبنان عن الاعتمادات الخاصة بالشحنات الحالية، فإن استقرار التغذية لن يتحقق، إلا في حال كان لدى وزارة الطاقة خطة إمداد في الفيول على الأقل لشهرين، وهذا يحتاج إلى التزام واضح من مصرف لبنان بفتح الاعتمادات التي تحتاج إليها المؤسسة، خاصة أنه من أصل الـ٢٠٠ مليون دولار التي أقرّها مجلس النواب لها، لم يفتح المصرف اعتمادات سوى بقيمة ١٤ مليون دولار. مصادر معنية تصف ما يفعله مصرف لبنان بالتمرد على المؤسسات الدستورية؛ إذ إنه، بصفته مصرف الدولة والمؤسسات العامة، ليس لديه خيار لرفض أو الموافقة على فتح اعتمادات للمؤسسات العامة. فهذه الاعتمادات ليست جزءاً من الدعم، وبمجرد وجود قانون يغطيها بالليرة، وجب عليه أن يحولها إلى الدولار، لأن المؤسسات والإدارات العامة لا يمكنها الحصول على العملة الأجنبية إلا من مصرف لبنان.
كذلك تستغرب المصادر أن مصرف لبنان، بالرغم من الشح النسبي في مادة المازوت، لا يزال يؤمن حاجة السوق إليها، بما يسمح بتشغيل المولدات الخاصة، فيما يحجب الأموال عن كهرباء لبنان، التي يفترض أن تكون لها الأولوية، حتى من منطلق اقتصادي؛ أولاً لأن استهلاكها للفيول أكثر فاعلية بأضعاف من المولدات، ما يوفر في استهلاك الدولارات لديه، وثانياً لأن كلفة الكيلوواط على المستهلك بالنسبة إلى كهرباء الدولة هي ١٠٦ ليرات، فيما كلفة الكيلوواط لدى المولدات تخطّت الألف ليرة، بالرغم من أن المازوت لا يزال مدعوماً. وهذا يعني أمراً من اثنين، إما أن مصرف لبنان يريد أن ينفّع كارتيل المازوت حتى لو أدى ذلك إلى هدر الدولارات المتبقية، وإما يريد أن ينفّع كارتيل المولدات، وفي الحالتين فإن المتضرر هو المستهلك والاحتياطي على السواء.
أزمة الكهرباء لا تنعكس على المستهلكين تغذية أقل فقط، بل تنعكس على كل نواحي الحياة، ومنها قطاع الإنترنت الذي حذّر المدير العام لأوجيرو عماد كريدية، أمس، من أنه يمكن أن يتوقف عن العمل، من جراء انقطاع الكهرباء. فانخفاض التغذية يتسبب في ضغط كبير على مجموعات توليد الطاقة التابعة لأوجيرو، في ظل صعوبة تأمين الاستقرار في إمداد المحطات بمادة المازوت، التي ازداد الطلب عليها.