حسن فحص-المدن
مصادر القوة التي اعتمد عليها زعيم الثورة الايرانية والمؤسس الإمام الخميني في التأسيس لدولة ما بعد الثورة كثيرة ومركبة، تتداخل فيها الشخصية الكاريزماتية التي ساهمت في تكريسه زعيما بلا منازع، مع الحرص على أن يكون التغيير جوهرياً في الانتقال من النظام الملكي الى النظام الجمهوري بالتزامن مع التمسك بالاطار الاسلامي الذي شكل ويشكل المنطلق الذي أسس له لبناء الحكومة الاسلامية، لذلك جاء الاستفتاء الذي جرى في مطلع كانون الاول /ديسمبر عام 1979 ليحسم الجدل السياسي حول طبيعة النظام تحت عنوان “الجمهورية الاسلامية الايرانية” على حساب مقترحات اخرى كالجمهورية الديمقراطية وكانت نتيجته تصويتاً بنسبة تفوق 98 في المئة.
التعددية السياسية التي ميزت المشهد الإيراني ما بعد انتصار الثورة، إن كان في الحكومة المؤقتة برئاسة مهدي بازركان الذي يمثل الاسلام الليبرالي، او في انتخاب برلمان تمثلت فيه كل القوى السياسية التي شاركت في الثورة، وصولا الى انتخاب ابو الحسن بني صدر كأول رئيس للجمهورية ، هذه التعددية بدأت تترنح مع دخول بني صدر في معركة مفتوحة مع رجال الدين، وهي معركة انتهت بتقديم انتصار للمؤسسة الدينية التي استطاعت ان تكرس نفسها “صاحبة الانجاز الوحيدة” ليبدأ بعدها مسار استبعاد واقصاء تلك القوى من الحياة السياسية لصالح اتجاه واحد سيكون هو المسيطر بما يسمح له من انتاج تعددية جديدة محكومة بالسقف الذي يعبر عن الجدليات داخل الصف الواحد، وثنائية تعزيز البعد الجمهوري للدولة مقابل تكريس البعد الاسلامي الثيوقراطي للنظام.
هذه الجدلية او الثنائية داخل الصف الواحد، حكمت المشهد الايراني خلال العقود الاربعة الماضية، وأرست ما بات يعرف بجناحي المحافظين والاصلاحيين، وتطورت لاحقا وصولا الى ما يشبه الانقسام العمودي سياسيا وفكريا واجتماعيا بين معسكرين بالمسميين ذاتهما، وصراع مفتوح بينهما غير قادر على استعادة تجربة مرحلة التأسيس التي تسمح بالغاء طرف لصالح آخر، الا انه سمح للمعسكر المحافظ بان يحاصر المعسكر الاصلاحي وان يستخدم ويسخر الاليات الديمقراطية لاخراجهم من الشراكة السياسية لصالح تعزيز سيطرته على مفاصل النظام والمؤسسات.
التطورات التي يشهدها سباق الانتخابات الرئاسية في دورتها الثالثة عشر (13)، تشير الى ان المعسكر الاصلاحي والقوى السياسية التي تمثله تواجه مصيرا مشابها لما واجهته القوى السياسية في مرحلة التأسيس، وبالآلية الديمقراطية نفسها التي دافعت عنها وتمسكت بها، من خلال هندسة الانتخابات التي تستهدف الوصول الى النتائج التي تريدها المؤسسة الدينية الممسكة بالنظام والدولة على حساب الفريق السياسي المنافس، لكن من دون ان تكون قادرة على القيام بهندسة اجتماعية لشرائح متعددة المشارب والتوجهات باستثناء قواعدها الشعبية الثابتة.
ويبدو ان المسار الاقصائي الذي وصلت اليه السلطة في ايران، لم يعد مقصورا في هذه المرحلة فقط على القوى الاصلاحية، ولم يعد الموقف منها مقتصرا على الخطاب المعلن بإلتزامها بالدستور، او في التفتيش عن نواياها العقائدية والفكرية في هذا الاطار، بل بات يشمل ابناء الصف الواحد للمعسكر المحافظ، وما يشكلونه من خطر كامن أو محتمل على طريق تكريس “ثيوقراطية النظام والسلطة” او تطويل المدة للوصول اليها بما يمثلونه او يحملونه من أفكار وآراء تلتزم بما هو موجود لكنها قد لا تقبل بما يحاول البعض رسمه في المستقبل. من هنا جاء قرار استبعادهم حاسما غير قابل للنقاش او اعادة النظر.
الخطاب الاخير للمرشد الاعلى للنظام في الذكرى السنوية الثانية والثلاثين على وفاة المؤسس وزعيم الثورة، لم يخرج عن الاطار العام للخطاب الذي ألقاه قبل اسبوع امام نواب البرلمان في ما يتعلق بقرارات مجلس صيانة الدستور التي استبعدت كل الشخصيات الاصلاحية التسعة (9) التي ترشحت للانتخابات الرئاسية، ومعهم شخصيات محافظة قد لا تكون المرحلة مناسبة لدخولهم الى هذا السباق، في حين شكل اخراج واقصاء مستشار المرشد ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني صدمة لدى جميع الاطراف حتى بين القوى المحافظة، التي لم تتأخر في فهم الرسالة التي حملها هذا القرار وما يعبر عنه من توجهات لدى القيادة العليا للنظام وما يقرر في كواليس الدولة العميقة.
اقفل المرشد الاعلى للنظام النافذة الاخيرة التي راهن الكثيرون على امكانية فتحها في جدار قرارات مجلس صيانة الدستور، وان يلجأ لاستخدام صلاحياته “كوليّ أمر المسلمين ووليّ للفقيه” باصدار “امر او قرار ولائي” يعيد بموجبه بعض المرشحين خصوصا لاريجاني الى السباق الرئاسي، ما يكشف ان كل الخيارات قد حسمت لدى الدولة العميقة حول دور وطبيعة رئاسة الجمهورية التي من المفترض ان تتولى ادارة السلطة التنفيذية في المرحلة المقبلة، وان النظام والدولة العميقة، يرى ان المرحلة باتت تستدعي الانتقال الى الخطوة الحاسمة على طريق تكريس سلطة مطلقة ذات طابع ديني، قد لا يكون فيها شرط من سيكون على رأسها آتيا من رئاسة الجمهورية او من موقع اخر، الا ان المطلوب ان يكون الرئيس الجديد منسجماً مع هذا التوجه لجهة انه سيكون احد الاقطاب المقررين في المجلس الانتقالي في حال فراغ موقع المرشد واختيار خليفته.