غزة كحقل تجارب لإيران
مركز القدس للشؤون العامة والسياسة”
جاك نريا – تولى سابقاً مناصب عسكرية رفيعة المستوى، كما عمل مستشاراً سياسياً لدى يتسحاق رابين
يخطىء مَن يعتقد أن المعركة الأخيرة بين إسرائيل و”حماس” والجهاد الإسلامي كانت معركة محدودة جغرافياً ضمن ساحة قتال صغيرة الحجم. مَن يتأمل سير الحرب خلال الأيام الـ11 لا يمكنه إلّا أن يرى فيها تجربة عامة لِما ينتظر إسرائيل في الجبهة الشمالية.
النطاق الغزاوي لم يكن سوى حقل تجارب لإيران وحزب الله اللذين تعرّفا من خلاله على قوة إسرائيل واختراقها الاستخباراتي وقدرتها الاعتراضية، وكذلك على حدود قوتها كما برزت في الحرص غير المنطقي على عدم المسّ بالمراكز السكانية، خوفاً من ردة فعل العالم واتهامها بجرائم ضد الإنسانية. كما تعرّفا على ارتباطها بالولايات المتحدة، وعلى التآكل الذي اعترى مكانتها لدى الرأي العام العالمي، وفي الأساس وسط الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، حزب الرئيس الأميركي جو بايدن.
نحن نحب أن نتذكر القول المنسوب إلى زعيم حزب الله حسن نصر الله الذي قال بعد حرب لبنان الثانية إنه لو كان يعلم حجم الدمار الذي تسبب به قراره تحدي إسرائيل لما كان بدأ هذه الحرب على الإطلاق. ونحن ندّعي المرة تلو الأُخرى أن مجرد عدم مبادرة حزب الله إلى القيام بأي عملية عسكرية في مواجهة إسرائيل وتردّده في القيام بذلك في المستقبل المنظور نابع من الردع الإسرائيلي إزاءه.
وفي الواقع، منذ سنة 2014 بدأ حزب الله جهداً لزيادة قوته بصورة غير مسبوقة، بتمويل وتوجيه من الإيرانيين، وجمع ترسانة صاروخية تتعدى الـ 140 ألف صاروخ، جزء منها دقيق جداً. لقد حلّل حزب الله المعارك في مواجهة الجيش الإسرائيلي وتبنى عقيدة قتالية تتلاءم مع الواقع الجديد. كما نشر الحزب علناً خطته للسيطرة على الجليل بواسطة وحدات النخبة، فرقة الرضوان، وعمل على بناء شبكة أنفاق هجومية وتحصينات تحت الأرض، عُثر على جزء صغير منها فقط على الحدود مع لبنان قبل عامين، وجرى تحييده بواسطة الجيش الإسرائيلي.
كما طوّر حزب الله ذراعاً من المسيّرات والوحدات البحرية التي من المفترض أن تضرب منصات الغاز الإسرائيلية الواقعة جنوب غرب الشواطىء اللبنانية. بالإضافة إلى كونه الذراع التنفيذية لإيران في المنطقة، راكمت وحداته القتالية خبرة عملانية قيّمة في المعارك في سورية والعراق واليمن.
… من وجهة نظر فلسطينية، أثبتت الحرب في غزة أن “الشيطان الإسرائيلي” ليس مخيفاً كما كان في الماضي. وفي الحقيقة الانتصار العسكري الأخير لإسرائيل كان في سنة 1982 [الغزو الإسرائيلي للبنان]، لكن اضطررنا في نهاية الأمر إلى الانسحاب من الجنوب اللبناني تحت ضغط حزب الله العسكري. حرب 2006 اعتُبرت انتصاراً لحزب الله على إسرائيل، أمّا عملية الجرف الصامد في سنة 2014 فقد أظهرت إلى أي حد امتنعت إسرائيل من المبادرة إلى دخول بري كثيف إلى قطاع غزة.
السياسة الإسرائيلية “فرّق تسُد” بين غزة والسلطة الفلسطينية ارتدّت سلباً على إسرائيل. وأدى إضعاف السلطة الفلسطينية في نهاية الأمر إلى ازدياد قوة “حماس” وتحوّلها إلى العنصر المهيمن في مواجهة إسرائيل.
ضعف ضبط النفس
لقد استوعبت “حماس” أن التقدير في إسرائيل حتى اللحظة الأخيرة هو أن “حماس” ليست معنية بمواجهة عسكرية ضد إسرائيل، وأنها مرتدعة، بالإضافة إلى الاستمرار في القول إن إسرائيل غير معنية بالقيام بعملية برية في غزة لإسقاط “حماس”، وأنها بفضل “القبة الحديدية” تستطيع الاكتفاء بعملية من خارج القطاع. هذا الكلام أدى في المنظور الفلسطيني إلى تجذر ضعف لإسرائيل، وعدم رغبتها في إدخال قواتها إلى غزة خوفاً من وقوع خسائر في الأرواح، والسيطرة على مليوني فلسطيني آخر.
هذه الاستنتاجات التقطتها طهران وحزب الله لأن التشابه مع الوضع في لبنان بديهي. لكن بعيداً عن كل ما قيل، الضعف الإسرائيلي لم يلمسه الجمهور الفلسطيني فقط، بل أيضاً حزب الله وإيران اللذان يتعلمان من سلوك إسرائيل خلال أيام القتال الـ11، وكل هذا لا يبشر بالخير بالنسبة إلى إسرائيل.
يجب أن تكون الحرب في غزة جرس إنذار مهماً يدفعنا إلى إعادة التفكير في سلوكنا إزاء أعدائنا في العالم العربي. والوضع الناشىء يحتم علينا القيام بتغيير جذري في ردود إسرائيل: يجب التخلي منذ الآن عن ضبط النفس الذي يُعتبر مصدر كل شر.
استمرار سياسة ضبط النفس هذه مع التردد في استخدام القوة يمكن أن يشجع إيران وحزب الله على مواصلة التخطيط لمفاجأة إسرائيل في الساحات الأُخرى إذا استنتجا أن إسرائيل ستعمل على منع وقوع أي مواجهة جبهوية مع حزب الله، وستمتنع من القيام بأي عملية برية يمكن أن تؤدي إلى وقوع خسائر في الأرواح، وأن تعرّض الجبهة الداخلية لضربات قاسية.