تقييم عسكري للصراع بين إسرائيل و«حماس»
غرانت روملي, نيري زيلبر
في الجولة الأخيرة من العمليات العسكرية بين إسرائيل و«حماس» استخدمت كل منهما أساليب جديدة لتحقيق أهدافها. وبينما كانت إسرائيل أكثر فاعلية من الناحية العسكرية، إلّا أن المقياس الحقيقي للنجاح سيعتمد على مدى سرعة «حماس» في إعادة بناء قدراتها القتالية واستغلال أي مكاسب سياسية.
بعد 11 يوماً من القتال، اتفقت إسرائيل وحركة «حماس» على وقف إطلاق النار في غزة برعاية مصرية. ووفقاً لمعظم المقاييس، كانت جولة التصعيد الأخيرة هي الأسوأ منذ عام 2014، حيث قُتل أكثر من 240 فلسطينياً و12 إسرائيلياً وفقاً للتقارير. كما أكّد “جيش الدفاع الإسرائيلي” عن مقتل ما لا يقلّ عن 200 مسلّح من غزة، بمَن فيهم 25 من كبار قادة «حماس».
وفي حين أنّ المواجهات السابقة كانت مدفوعة بمطالب «حماس» بالإغاثة الاقتصادية أو تخفيف القيود الإسرائيلية حول غزة، فإنّ هذه الجولة قد تأججت برغبة «حماس» الواضحة في تأكيد قيادتها للقضية الفلسطينية. وفي أعقاب الانتخابات التشريعية الملغاة واحتجاجات القدس، رأت «حماس» فرصةً لتصوير نفسها على أنّها حامية المدينة المقدّسة على حساب منافسيها من حركة «فتح». وحالما اندلعت الاضطرابات والاشتباكات الداخلية في إسرائيل والضفة الغربية، اعتقدت «حماس» أنّ لديها فرصة لإشعال النار في الساحة الفلسطينية بأكملها.
وبدأت المواجهة العسكرية عندما أطلقت «حماس» صواريخ على القدس في 10 أيار/مايو. ورداً على ذلك، سعت إسرائيل بشدّة إلى إضعاف القدرات العسكرية لحركتَي «حماس» و «الجهاد الإسلامي في فلسطين» من أجل استعادة الردع طويل الأمد ولكي يخيّم الهدوء النسبي على حدودها الجنوبية. ولتحقيق هذه الأهداف، استخدمت عملية “حارس الجدران” التي نفّذها الجيش الإسرائيلي نهجاً أكثر عدوانية مقارنةً بجولات القتال السابقة. وتهدف إسرائيل الآن إلى منع «حماس» من إعادة التسلّح، على الرغم من أنّ كيفية مواءمة هذا الهدف مع الاحتياجات الإنسانية العاجلة لغزة يبقى سؤالاً مفتوحاً. ومن جانبهم، استخدم المقاتلون في قطاع غزة أيضاً قوّاتهم بطرق جديدة، مما أدّى إلى نتائج متباينة.
التغييرات التكتيكية لـ «حماس»/«الجهاد الإسلامي في فلسطين»
استخدمت حركتا «حماس» و «الجهاد الإسلامي في فلسطين» ترساناتهما الواسعة لإطلاق الصواريخ بوتيرة ومدى غير مسبوقَين، وغالباً ما جرى إطلاق عشرات الصواريخ في وقت واحد على نفس الهدف ومن مواقع مختلفة في غزة في محاولة لإغراق نظام “القبة الحديدية” الدفاعي الإسرائيلي [بالصواريخ]. وشمل ذلك قصفاً مستمراً ضدّ منطقة تل أبيب الكبرى، ولا سيما خلال الأسبوع الأول من الأعمال العدائية. وإجمالاً، جرى إطلاق 4300 صاروخ (سقط منها أكثر من 600 في غزة). وعلى مدار أحد عشر يوماً من الصراع، وصل هذا المتوسط إلى حوالي 390 صاروخ تم إطلاقها يومياً، مقارنةً بما يقرب من 650 صاروخ في الإجمال جرى إطلاقها على مدار 22 يوماً في 2008-2009 (29 صاروخ في اليوم الواحد)، و1500 صاروخ على مدار 8 أيام في عام 2012 (187/اليوم الواحد)، وأكثر من 4500 صاروخ موّزعة على 50 يوماً في عام 2014 (90/اليوم الواحد).
وحقّق هذا التكتيك من الإغراق الصاروخي نجاحاً محدوداً فقط، حيث أبطلت التحسينات على نظام القبة الحديدية وإلى حد كبير القنابل الثقيلة. ووفقاً للجيش الإسرائيلي، حافظ هذا النظام على معدّل اعتراض بنسبة 90٪ ضدّ الصواريخ المتّجهة إلى التجمّعات السكانية الإسرائيلية، مقارنةً بالجولات السابقة (إن لم يكن أفضل قليلاً منها) التي شملت نيران أخف شدّة. كما فشلت الجهود التي بذلها المقاتلون لاستهداف البنية التحتية الاستراتيجية (على سبيل المثال، منصات الغاز الطبيعي البحرية؛ منشأة ديمونة النووية). وكان الاستثناء الوحيد هو الضربة المبكرة التي أصابت خط أنابيب غاز بالقرب من عسقلان. ولم تحقّق الضربات التي استهدفت أكبر مطارَين في إسرائيل الأثر المطلوب أيضاً، على الرغم من إلغاء العديد من الرحلات الجوية الأجنبية أو تغيير مسارها، وإغلاق مطار “بن غوريون الدولي” بشكل متقطع.
وكانت الجهود الأخرى التي بذلتها «حماس» لتحقيق مفاجأة تكتيكية فاشلة تقريباً بالكامل. فقد تم تجهيز العديد من المركبات الجوية غير المأهولة لإلقاء القنابل أو العمل كطائرات بدون طيار انتحارية، لكنها أُسقطت من قبل الدفاعات الجوية الإسرائيلية. وكانت الغواصات الصغيرة غير المأهولة محمّلة بما يصل إلى 30 كيلوغراماً من الذخائر لاستهداف السفن ومنصات الغاز، لكن القوات البحرية والجوية الإسرائيلية دمّرتها قبل الإطلاق. وحاولت القوّات الخاصة (“النخبة”) التابعة لـ «حماس» التسلّل إلى داخل إسرائيل عبر الأنفاق العابرة للحدود، لكن تم رصدها من قبل مصادر استخباراتية، ومنعها من خلال تواجد جدارٌ خرساني واسع النطاق تحت الأرض، واعتراضها بواسطة الغارات الجوية. وجاء النجاح العملي الإسمي الوحيد لـ «حماس» من خلال نشرها لفرق الصواريخ المضادة للدبابات، التي أطلقت النار في ثلاث مناسبات على مدنيين وعسكريين إسرائيليين في منطقة حدود غزة، مما أسفر عن مقتل جندي واحد.
كما أصدرت «حماس» دعوات مباشرة لعرب إسرائيل وفلسطينيي الضفة الغربية للانضمام إلى القتال، مما ساعد على تأجيج اضطرابات شعبية غير مسبوقة داخل إسرائيل. وتم احتواء هذا العنف في النهاية من خلال عملية مكثفة قامت بها الشرطة الإسرائيلية و”الشاباك” في الداخل، بالإضافة إلى مضاعفة عدد كتائب الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية تقريباً. كما ساعد التنسيق الأمني المستمر بين إسرائيل و”السلطة الفلسطينية” في الحفاظ على الاستقرار أيضاً. ومع ذلك، فبينما لم يتحوّل الوضع إلى اندلاع انتفاضة كاملة كما كانت تأمل «حماس»، فإنّ حقيقة أنّ الحركة كانت قادرة على ربط القتال في غزة بالساحة الفلسطينية الأوسع نطاقاً قد يكون لها تداعيات استراتيجية كبيرة في حالة اندلاع أعمال عدائية مجدداً.
التغييرات العملياتية والتكتيكية الإسرائيلية
أدخلت إسرائيل تكتيكات ومفاهيم عملياتية جديدة وفقاً لخطة وضعها القائد السابق لـ “القيادة الجنوبية” في “جيش الدفاع الإسرائيلي”، الميجور جنرال هيرزي هاليفي. وتمثّلت الخطة الجديدة لأي صراع في غزة، التي هي أحد مكوّنات “عقيدة النصر” للجيش الإسرائيلي التي وضعها مؤخراً رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، باستخدام قوة نيران جماعية من خلال التنسيق بين القوات المشتركة، والقيام بذلك بشكل أسرع وبذكاء أكثر تحديداً ممّا سبق رؤيته، وكلّ ذلك بغية قهر العدو واستعادة الردع على المدى الطويل بسرعة. وأوضح الاستراتيجيون الإسرائيليون أيضاً أنّ الرد الشديد على «حماس» كان يهدف، جزئياً على الأقلّ، إلى ردع «حزب الله» وإيران عن القيام بأي عدوان مماثل في المستقبل.
ولتحقيق هذه الغايات، أظهر الجيش الإسرائيلي استعداداً فورياً لاستهداف كبار القادة العسكريين في منازلهم ومنشآتهم، من بينهم قادة الألوية والمتخصصين في الصواريخ. كما استهدف الجيش الإسرائيلي بعض المباني متعدّدة الطوابق، بحجة أنّها كانت تُستخدم لأغراض استخباراتية، وللقيام بعمليّات البحث والتطوير في مجال الأسلحة، ولأغراض القيادة والتحكّم. وأُعطيت هذه الأهداف الأخيرة إنذاراً مسبقاً وتم إخلاؤها قبل إطلاق الضربات الجوية؛ ووفقاً للجيش الإسرائيلي، استخدمت «حماس» هذه الفترة الزمنية لإزالة المعدّات التكنولوجية (مثل محركات الأقراص الثابتة).
ويؤكّد الجيش الإسرائيلي أيضاً أنّ الضربات الجوية وغيرها من العمليات أضعفت بشدة قدرة «حماس» و «الجهاد الإسلامي في فلسطين» على إنتاج الصواريخ المحلية، على الرغم من أنّ المدى الحقيقي للضرر سيُقاس بمدى سرعة المقاتلين في إعادة تشكيل ورش العمل ومكوّنات البرامج الأخرى. وقبل اندلاع الأعمال العدائية، قدّر الجيش الإسرائيلي أنّ لدى الحَرَكَتين ما يقرب من 13000 إلى 15000 صاروخ في ترسانتهما المشتركة، والغالبية العظمى منها منتجة محلياً.
بالإضافة إلى ذلك، بذلت إسرائيل جهوداً متضافرة لشلّ نظام أنفاق «حماس» الواسع داخل غزة، وليس فقط أنفاق الهجوم العابرة للحدود كما في عام 2014. وهذا النظام – الذي يَطلق عليه المسؤولون الإسرائيليون إسم “المترو” ويصفون طوله بمئات الكيلومترات – هو الركيزة الأساسية للمفهوم القتالي الكامل للحركة، والذي يُستخدم لنشر مقاتلي «حماس» وصواريخ تحت الأرض بأسرع وقت ممكن من أجل العمليات الهجومية والدفاعية على حد سواء. ويفيد المسؤولون الإسرائيليون أنّه على مدار عدة أيام، دمّرت الغارات الجوية الإسرائيلية حوالي 100 كيلومتر من هذه الشبكة، على الرغم من أنّه في هذه الحالة أيضاً، لا يمكن تقييم المدى الحقيقي للضرر إلّا في المستقبل.
وعلى نطاق أوسع، كان نظام المعركة في الجيش الإسرائيلي كافياً للتعامل مع التهديدات على جبهات متعدّدة – غزة والضفة الغربية وإطلاق الصواريخ المتقطع من لبنان وسوريا. وكان لا بد من استدعاء حوالي 7000 جندي احتياطي فقط من الجيش الإسرائيلي، بشكل أساسي لدعم القدرات الاستخباراتية وقدرات القبة الحديدية. ومع ذلك، فإنّ احتواء الاضطرابات داخل إسرائيل تطلّب من شرطة الحدود استدعاء ما يعادل عشرين فصيلة من جنود الاحتياط، لدعم السرايا التسع التي أُعيد انتشارها من الضفة الغربية (والتي تحولت من قيادة “جيش الدفاع الإسرائيلي” إلى قيادة الشرطة الوطنية عندما عادت هذه الفصائل إلى إسرائيل).
التداعيات الاستراتيجية
كما في جولات القتال السابقة، من شبه المؤكد أن تحاول إسرائيل و«حماس» تحويل إنجازاتهما العسكرية إلى مكاسب استراتيجية أكبر. وسيكون من الصعب تحديد مكاسب «حماس» بشكل خاص هذه المرة لأنّ أهدافها كانت سياسية إلى حد كبير. وكانت بعض العواقب واضحة – فقد خاضت «حماس» مجدداً مواجهة مع أقوى جيش في الشرق الأوسط ونجت [من الهجمات الإسرائيلية]، وأطلقت صواريخ بمعدل أكبر ومدى أوسع من أي خصم إسرائيلي آخر، وقلبت الحياة اليومية رأساً على عقب في إسرائيل [من جنوبها] وحتّى شمال مدينة نتانيا، ومن المرجح أنها عززت مكانتها بين العديد من عرب إسرائيل وفلسطينيي الضفة الغربية. ومع ذلك، أظهرت الحركة أيضاً استعدادها المعتاد للتضحية برفاهية سكان غزة من أجل تحقيق أهدافها الخاصة.
الآن وبعد التوصّل إلى وقف إطلاق النار، من المرجح أن يكون الضغط الدولي لإعادة الإعمار هائلاً. لكن ما هو أقلّ تأكيداً هو ما إذا كانت إسرائيل ستوافق على تخفيف القيود المفروضة على دخول المواد والسلع إلى غزة كما فعلت بعد صراع 2014. وحسّنت «حماس» بشكل واضح قدراتها العسكرية بعد كلّ جولة قتال، لذلك قد لا تكون إسرائيل مستعدة بعد الآن للحفاظ على سياسة “الهدوء مقابل الهدوء” في غزة إذا سمح ذلك للحركة مجدداً ببناء قدراتها دون رادع. وكما تعهّد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، “ما كان في الماضي لن يكون في المستقبل بعد الآن”.
باختصار، لا يزال احتمال اندلاع جولة أخرى من القتال كما كان الوضع عليه بعد 2009 و 2012 و 2014، ما لم يحدث تغيير جوهري في ميزان القوى في غزة. لذلك، قد تنتهي إسرائيل والأطراف الأخرى بالحكم على نجاح هذه العملية أو فشلها بناءً على عدد السنوات التي تؤخّر فيها حرباً أخرى.