قبل كل شيء هدنة، ثم سلام
“هآرتس”
البروفيسور ليف غرينبورغ – رئيس رابطة علماء الاجتماع الإسرائيليين، وباحث في قسم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة بن غوريون
منذ بداية عملية “حارس الأسوار” طُرحت الحجة في أن المشكلة هي أن نتنياهو ليس لديه “استراتيجيا”، وأنه يترك الأمور تتدهور لاعتبار سياسي ضيق، الأمر الذي منح “حماس” “انتصاراً”. حتى لو كانت الحجة السياسية ضد نتنياهو صحيحة، وأن “حماس” قفزت بسرور على المناسبة لتحقيق ربح سياسي، فإن كل النقاش الاستراتيجي والبحث عن انتصار يبدو لي غير صحيح في أساسه. المقصود هنا نقاش عسكري – أمني يجري استبداله بنقاش سياسي.
يوجد لدى نتنياهو استراتيجيا وهؤلاء الذين ينتقدونه بأن ليس لديه استراتيجيا يعتقدون أن استراتيجيتهم أفضل من أجل استمرار سيطرة إسرائيل على الفلسطينيين، وتحسين صورة إسرائيل في العالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة. المنتقدون الاستراتيجيون المعتدلون ظاهرياً يقترحون وقف دخول “حقائب الدولارات القطرية” من أجل تجفيف “حماس”، وتطوير العلاقات مع محمود عباس. في المقابل نتنياهو يتجاهل عباس ويقوّي “حماس”، سواء بحقائب المال أو بجولات متكررة من القصف.
القاسم المشترك بين نتنياهو وبين منتقديه “الاستراتيجيين” هو الفرضية الأساسية القائلة بضرورة الاستمرار في حصار غزة كأداة ناجعة للسيطرة على الفلسطينيين. هذا نقاش داخلي نموذجي للأنظمة الاستعمارية والديكتاتورية التي تنتهج أسلوب “فرّق تسُد”. هل نتعاون مع الحكام المعتدلين أو نصعّد المواجهة مع المتطرفين. في كتب الديمقراطية يطلقون على طرفي النزاع “اليد القاسية” و”اليد الناعمة”، وما يجري هو نقاش داخل مجموعة حاكمة بشأن كيفية استكمال السيطرة.
استراتيجيا “اليد الناعمة” (المعتدلة) تبلورت في قيادة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي في الانتفاضة الأولى، عندما أعلنت عدم وجود حل عسكري والمطلوب حل سياسي، وقد تحقق في اتفاقات أوسلو. ولقد شرح يتسحاق رابين لياسر عرفات أنه لا توقفه لا المحكمة العليا ولا بتسيلم، وهو قادر على قمع “حماس” بسهولة. الذي خرّب هذه الاستراتيجيا المعتدلة هو إيهود باراك. فقد ادّعى عندما كان رئيساً للأركان أن اتفاق أوسلو “ممتلئ بالفجوات مثل الجبنة السويسرية”، وعندما أصبح رئيساً للحكومة فكّك اتفاقات أوسلو كما تُفكَّك الساعات، وبنى واقعاً جديداً مفاده “لا يوجد شريك”، لذلك فإن المطلوب خطوات أحادية الجانب. أتى أريئيل شارون ليكمل عمله مع الخروج الأحادي الجانب من غزة والفصل بينها وبين الضفة الغربية.
بعد فوز “حماس” في الانتخابات البرلمانية الفلسطينية في كانون الثاني/يناير 2006 وسيطرتها بالقوة على القطاع، حدّث الجيش عقيدته الاستراتيجية “المعتدلة”: تأبيد الفصل بين غزة والضفة، وبين “فتح” و”حماس”، من أجل تطوير حكم محمود عباس والتعاون الأمني معه ومعاقبة “حماس” على مواقفها الرافضة.
لم يخترع نتنياهو شيئاً جديداً، لا أسلوب فرّق تسُد، ولا الحصار على غزة، ولا جولات العنف التي كانت الأولى منها بعد الانفصال في سنة 2006 مع خطف الجندي جلعاد شاليط، أمّا الجولة الأخيرة قبل مجيء نتنياهو فكانت عملية الرصاص المصبوب. نتنياهو غيّر فقط جدول الأولويات: طوّر سلطة “حماس” وجفف عباس، لماذا؟ ثمة 3 أسباب أساسية لذلك: لأن ذلك يحل المشكلة مع المتطرفين من المستوطنين في الضفة الغربية ويحافظ على موقعه كزعيم لليمين الأيديولوجي. ثانياً، لأن ليس لعباس خيار آخر للمحافظة على سلطته وهو بحاجة إلى التعاون مع الجيش الإسرائيلي، وثالثاً، لأنه مثل كل حكم استعماري أو ديكتاتوري قبل انهياره، لإسرائيل تفوّق عسكري على “حماس”.
إن ضعف الاستراتيجيين “المعتدلين” هو ضعف سياسي. الذين يؤيدون هذه الاستراتيجيا هم في معظمهم من قدامى العسكريين الذين يرون في “حماس” خطراً يزداد قوة أيضاً في الضفة الغربية وداخل حدود إسرائيل ذات السيادة، الأمر الذي يصعّب كثيراً مهمة الحفاظ على أمن المواطن الإسرائيلي اليهودي. لكن الجمهور الإسرائيلي لا تحركه اعتبارات استراتيجية عسكرية للسيطرة على السكان، بل الإحباط والخوف اللذان يولدهما العنف. الشعور بالعجز وفقدان الأمل بالتغيير هما اللذان يقودان إلى الدعوات إلى ضرب العدو بقوة. هذه هي المادة التي بنى عليها نتنياهو حكمه وتفوقه السياسي منذ سنة 2009.
الأخبار الجيدة أنه بخلاف ردات فعل الجمهور منذ سنة 2000 عندما أقنع باراك الجميع بعدم وجود شريك، هذه المرة برزت أصوات أُخرى تدعو إلى الحوار والتعاون اليهودي – العربي، وتقف ضد العنف والتحريض. ليس لهذه الأصوات خيار سياسي واضح، وليس لديها حتى الآن حوار بديل من الحوار الاستراتيجي. الصعوبة الأساسية هي أنه بعد أعوام من الاعتقاد الأسطوري بعدم وجود شريك، وبعد خطوات أحادية الجانب وعنف متزايد، لا يوجد أحد قادر على لفظ كلمة سلام بجدية.
ربما من المفيد البدء بكلمة هدنة – بالعربية اتفاق وقف القتال (وليس “تسوية”، وهي كلمة سر مبتذلة لاستمرار استراتيجيا فرّق تسُد وتقوية حكم “حماس”). إن رفع الحصار عن غزة ووقف استمرار طرد الفلسطينيين من منازلهم – في حي الشيخ جرّاح واللد ويافا – هما شرطان أساسيان للهدنة. من أجل إحداث تغيير سياسي يجب أن نتخيل واقعاً مختلفاً، لكن في وضع العنف الحالي يبدو أن هذا غير ممكن. الإسرائيليون والفلسطينيون بحاجة إلى الهدنة كي يتخيلوا مستقبلاً للسلام من جدي.