لماذا يغيب المسلمون عن اجتماع الفاتيكان؟
محمد السماك -أساس ميديا
بالنسبة إلى منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، لبنان هو دولة كغيرها من الدول. ولكن بالنسبة إلى الفاتيكان، ليس لبنان مجرّد دولة تُضاف إلى الدول العربية، بل هو دولة استثنائية. وتقوم هذه الاستثنائية على الدور الذي يلقيه الفاتيكان على عاتق هذه الدولة. وهو دور ثقافي في الدرجة الأولى، ويتمثّل في تقديم نموذج يُحتذى للعيش المشترك بين جماعات دينية ومذهبية متعدّدة.
يعني ذلك أنّ لبنان بصيغته الاستثنائية في المنطقة العربية ليس مهمّاً لذاته فقط، ولكنّه مهمّ لدوره الإقليمي المتداخل مع ذاته. وهو تداخل مباشر وعميق أيضاً مع تطلّعات الفاتيكان إلى العالم العربي عامةً، وإلى واقع ومستقبل المسيحيين العرب خاصّة.
منذ عام 1965، عندما صدرت عن المجمع الفاتيكاني الثاني وثيقة نوسترا إيتاتي (Nostra Aetate: حالة عصرنا) التي فتحت صفحة اعتراف وودّ وتعاون مع الإسلام ومع المسلمين، راهن الفاتيكان على الدور اللبناني في حمل هذه الرسالة الجديدة بحكم تكوينه وموقعه ودوره. ومن هنا جاءت مقولة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني بأنّ لبنان هو أكثر من دولة، إنّه رسالة.
ولكن عندما يتداعى لبنان الدولة، ماذا يتبقّى من الرسالة؟
من أجل ذلك يبدي اليوم الفاتيكان، وعلى رأسه البابا فرنسيس، اهتماماً بانهيار لبنان الدولة وتعثّر لبنان الرسالة. ذلك أن انعكاسات هذين الأمرين المتكاملين تلقي بظلالها على فلسفة العيش المشترك في المنطقة العربية، وربّما في مناطق أبعد، وتوجِّه إلى الاستراتيجية الفاتيكانية ضربة في الصميم.
حاول الفاتيكان التدخّل مراراً لضخّ قدر عال من الصدقيّة في الصيغة – الرسالة التي يمثّها لبنان ويُفترض به أن يحمل لواءها. فكان السينودس “رسالة جديدة للبنان” الذي دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني، ثمّ كان السينودس حول الشرق الأوسط الذي دعا إليه البابا بنديكتوس السادس عشر، ثمّ كانت سلسلة زيارات البابا فرنسيس لمصر (السلام العالمي)، ولأبو ظبي (الأخوّة الإنسانية)، ثمّ للعراق (الأخوة الإبراهيمية). وكلّها مبادرات فاتيكانية تتماهى مع دور لبنان ورسالته. ولكن لبنان كان فيها الغائب الحاضر. الغائب بدولته والحاضر برسالته.
لكنّ فشل الدولة يعني في الحسابات الأخيرة فشل الرسول. ومن هنا كانت المبادرة الفاتيكانية الجديدة المتمثّلة بدعوة القيادات الروحية المسيحية إلى سينودس مصغّر يجري الآن ترتيبه على عجل.
تجدر الإشارة إلى أنّ السينودس الأول (1995) والسينودس الثاني (2010) عُقدا بحضور إسلامي ومشاركة إسلامية فعّالة. هذه المرّة لم يُدعَ مسلمون إلى السينودس المصغّر، الأمر الذي يرسم علامة استفهام حول الحكمة من وراء ذلك.
لا بدّ من التذكير بسابقة دعوة المسلمين إلى السينودس الأول الذي دعا إليه البابا يوحنا بولس الثاني. في ذلك الوقت اعتذرت المرجعيات الإسلامية (مفتي الجمهورية ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وشيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز) عن تلبية الدعوة. وقرّر الرؤساء الروحيون الثلاثة توجيه رسالة شكر مع تمنّياتهم بنجاح المؤتمر في المساهمة بإنقاذ لبنان (بعد مؤتمر الطائف).
يومئذٍ تدخّل الرئيس الشهيد رفيق الحريري لإقناع المرجعيات الإسلامية بأنّ السينودس ليس مؤتمراً دينيّاً حصراً، بل هو مؤتمر وطني أيضاً، ومن المهمّ نقل وجهة نظر المسلمين إلى المؤتمر، وذلك لا يمكن أن يتحقّق إلا بالمشاركة. وهكذا كان.
اليوم أيضاً، ليس السينودس المصغّر، الذي دعا إليه الفاتيكان، مؤتمراً دينياً. إنّه لقاء سياسي لإنقاذ لبنان وصيغة عيشه المشترك. فهل يمكن أن يتحقّق ذلك من دون مشاركة إسلامية؟
قد يبدو طرح هذا السؤال أمراً سابقاً لأوانه، باعتبار أنّ الترتيبات النهائية للسينودس لم تكتمل بعد. لكنّ دور الفاتيكان في التعامل مع الأزمات اللبنانية المتلاحقة كان بنّاءً دائماً. وكان شاملاً أيضاً.
لا يغيّر من هذا المبدأ حجم المؤتمر المقرّر عقده. فالمبدأ واحد. ولبنان، الذي يقف اليوم على حافة الانهيار، لا يعني انهياره، لا سمح الله، انهياراً لذاته فقط، بل هو يعني انهيار رسالته، وتصدّع الاستراتيجية الفاتيكانية في العالم العربي، وفي العالم الإسلامي الأوسع. من أجل ذلك، كان من الطبيعي أن يبذل الفاتيكان كلّ جهد ومسعى لإنقاذ لبنان الرسالة.. فهل يستطيع؟
كان جزء كبير من الإجابة عن هذا السؤال يتوقّف على السلطة اللبنانية. الآن تغيّر الوضع. المجتمع الدولي يقفز من فوق هذه السلطة في تعامله مع لبنان.. وهو يحمّلها نسبة مرتفعة جدّاً من مسؤوليات التدهور والفشل والانهيار الذي تعانيه الدولة.. الرسالة.
ولأنّ هذه الدولة تعرف ذلك، فقد أدارت أذناً صمّاء لنداءات التنبيه والتحذير العربية، وأدارت الأذن الأخرى الصمّاء أيضاً لنداءات التنبيه والتحذير الدولية (الأميركية – الأوروبية).
لا تملك الدولة أذناً ثالثة لتديرها لدعوات الفاتيكان المتكرّرة لإنقاذ الرسالة، بإنقاذ لبنان الرسول. ولأنّ الفاتيكان يعرف ذلك الآن، فقد تجاوز هو أيضاً الشكليات الرسمية، وتوجّه مباشرة إلى الكنيسة.
لم تغيّر زيارات سيّد بكركي البطريرك بشارة الراعي للقصر الجمهوري من هذه السلبيّات التي أصبحت من الثوابت، فقد “أسمعت لو ناديت حيّاً.. ولكن لا حياة لمن تنادي”.