الكتائب والاحرار والطاشناق تخوض انتخابات ١٩٧٢
كتب د. مارك م. أبو عبدالله، باحث في تاريخ الانتخابات النيابية:
في تاريخ ٨ اذار ١٩٧٢ أصدرت الحكومة مرسومًا رقمه ٢٩٠٩ دعا الهيئات الانتخابية الى انتخاب مجلس النواب في التواريخ التالية: ١٦ نيسان ١٩٧٢ في الدوائر الانتخابية في بيروت والشمال، في ٢٣ نيسان ١٩٧٢ في الدوائر الانتخابية في الجنوب والبقاع، في ٣٠ نيسان ١٩٧٢ في الدوائر الانتخابية في جبل لبنان. بُذلت جهودًا كبيرة من بعض القوى والأحزاب لحمل الجهات الرسمية على تبديل مواعيد الانتخابات هذه لجهة جعلها في الجبل وبيروت في يوم واحد. والهدف من هذا التبديل كان محاولة تفويت الفرصة على بعض الأحزاب ومنها الكتائب بحيث توزع قواها التنظيمية على مراكز ثقلها الانتخابية في يوم واحد ولا تركز هذه القوى في بيروت أولا وتتفرغ من ثم لبقية المناطق. إلا ان هذه المحاولة باءت بالفشل.
كانت القوى السياسية المختلفة ولأول مرة مبعثرة، فلا يظللها نهج او حلف ولا موالاة رئيس الجمهورية او معارضته، وهو الذي وصف العملية الانتخابية بمعركة رياضية صرفة. في اجتماع للأحزاب اليسارية في ٨ اذار ١٩٧٢ هاجم كمال جنبلاط الرئيس سليمان فرنجية واعتبر ان المعركة التي تخوضها الأحزاب الممنوعة هي معركة ضد العهد. وكان العميد ريمون اده يتجاوب وان بطريقة غير معلنة تمامًا تجاوبًا مع الاتجاه الجنبلاطي. هذا الهجوم على العهد، المتزامن وقتذاك مع الطروحات الوحدوية العربية لكل من الأردن والعراق، والضربات الإسرائيلية الانتقامية من الفدائيين في الجنوب اللبناني اشعر المسحيين بنوع من الخوف على وجودهم ودورهم. وكان هذا على الأرجح الدافع لقيام الرئيس سليمان فرنجية بتوجيه رسالة الى الأكثرية الصامتة قُبيل الانتخابات النيابية، والتي ابرز ما جاء فيها: “كل يد تمتد الى لبنان تُقطع وكل رأس يتشامخ على لبنان تُضرب عنقه”.
في اجتماع عُقد في بيت الكتائب المركزي في ٩ اذار ١٩٧٢ بين بيار الجميل وكميل شمعون قال الجميل: “الشيء الوحيد والأكيد حتى الآن هو ان تحالفنا مع الاحرار نهائي، اما تعاوننا مع القوى الأخرى فلم يتضح بعد … ومن الطبيعي ان نتعاون مع القوى التي تساندنا على ربح المعركة”. ولكن، ظهر هناك خلاف بين الكتائب والطاشناق، وكان سببه مطالبة الطاشناق بالمقعد الانجيلي في دائرة بيروت الأولى، بحجة انه تخلى عن مقعد الأرمن الكاثوليك في بيروت لصالح الكتائب. إلا ان بيار الجميل كان يعتبر ان المقعد الإنجيلي في بيروت غير تابع للكتائب، لكي تتخلى عنه لحزب الطاشناق، كما اعتبر الجميل ان الطاشناق يُطالبون بهذه المقعد من منطلق عنصري، كونهم يعتبرون انفسهم ارمن قبل ان يكونوا لبنانيين. إلا ان الجميل الذي كان يشدد دائمًا على التعاون المخلص بين الكتائب والطاشناق طيلة اكثر من عشرين سنة، اعتبر انه اذا تمّ الاتفاق مع الطاشناق، كان به، اما إذا لم يتم ذلك فالكتائب مستعدة للمعركة الانتخابية. أدى هذا الخلاف الى تأخر تشكيل اللوائح في دائرتي بيروت الأولى والمتن الشمالي. وسرت في تلك الفترة معلومات عن إمكانية اتفاق الطاشناق مع بيار اده، إلا ان هكذا اتفاق لم يُعلن بشكل رسمي، في المقابل اعلن بيار الجميل انه اذا لم يتوافق حزبي الكتائب والطاشناق، فإن الكتائب على الاستعداد للتحالف مع من يستطيع تأمين أصوات اكثر ومع من تتفق الكتائب معه من حيث الأفكار والمبادئ. إلا ان طرفي الخلاف، أي الكتائب والطاشناق، قبلا بتدخل كميل شمعون لحلّ الخلاف. وفي حين كان شمعون يتابع مفاوضاته مع الطاشناق، كان حزب الكتائب يتفاوض ايضًا مع ممثلي التجمع الأرمني الذي كان يضم ممثلين من حزب الرمغفار وحزب الهنشاك الارمنيين. وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجهت الى بيار الجميل بسبب هذا التفاوض، نظرًا لأن حزب الهنشاك هو حزب يساري، إلا ان عملية التفاوض أتت لقطع الطريق على كمال جنبلاط الذي أراد التوفيق بين حزبي الطاشناق والهنشاك لتوحيد الجبهة الأرمنية في وجه الكتائب. نظرًا لهذه المعطيات، جرى ركون الكتائب الى تحكيم الرئيس كميل شمعون. وفي ١٧ اذار ١٩٧٢، وبعد مفاوضات بين الكتائب والطاشناق، صدر قرار كميل شمعون الذي قضى بسحب ترشيح مرشح الكتائب عن المقعد الإنجيلي في بيروت، سمير اسحق، وذلك قبل حصول الجميل على أي وعد بتعويض هذه الخسارة في مكان اخر. قبل بيار الجميل بقرار التحكيم هذا.
على الرغم من التحالف الميتن بين حزبي الكتائب والاحرار، إلا ان هذين الاخيرين لم يقطعا خطوط التواصل مع بقية الأحزاب. ففي الأول من نيسان اجتمع بيار الجميل مع رئيس الحزب الدستوري خليل الخوري، وكان الهدف من ذلك محاولة للاتفاق على التعاون بين الدستوريين والكتائب في دائرة جبيل للحؤول دون قيام لائحة ثالثة تأخذ من طريق اللائحة المنافسة للائحة الادية هناك. إلا ان الكتائب رفضت، وبناء على طلب الدستوريين، تشكيل لوائح مشتركة بين الكتائب والدستوريين في بقية الدوائر. وبعد أن ضمنت الكتائب مرشحيها في بيروت والمتن الشمالي بالاتفاق مع الطاشناق والوطنيين الاحرار، ابدى حزب الكتائب استعداده لمواجهة المعارك الانتخابية في الدوائر الأخرى سواء مع حزب الاحرار او من دونه وسواء بالتعاون مع الحزب الدستوري او مع المرشحين المستقلين. ويعود موقف الكتائب هذا الى الخلافات بين الكتائب والاحرار التي ظهرت في دائرة قضاء عاليه، حيث أظهر الاحرار نية للتحالف مع الكتلة الوطنية، إلا ان ذلك لم يؤد الى فرط التحالف بين بيار الجميل وكميل شمعون في بقية الدوائر. إذ وفي النهاية جرى الاتفاق بين الحزبين على تشكيل لوائح مشتركة في سائر دوائر جبل لبنان باستثناء دائرة قضاء عاليه التي تُركت “منطقة حرة”. وقضى الاتفاق باستبعاد التعاون مع الكتلة الوطنية لتعذر التفاهم بين الكتائب والكتلة.
اما في موضوع التحالف في المتن الشمالي، فقد بدأ الحديث داخل البيت المركزي الكتائبي عن إمكانية اختيار مرشح كتائبي ثاني بالإضافة الى امين الجميل، وذلك بهدف التعويض عن مقعد سمير اسحق في بيروت وجورج عقل في زحلة. إلا ان الاحرار لم يكن متحمسًا لهذا الطرح، حتى وان لم يكن جديًا، لانه كان يعتقد ان المصلحة تفرض التعاون مع مرشح يستطيع ان يؤمن للائحة اصواتًا إضافية، وهي لذلك تفضل ان يكون الماروني الثالث من ساحل المتن، حتى ولو كان من المستقلين.
تأخر اعلان لائحة الكتائب-الاحرار-الطاشناق في المتن كان بسبب عقدة مرشح الاحرار. اظهر الرئيس كميل شمعون إرادة في تبني ترشيح نسيب لحود عن المقعد الماروني الثالث في المتن، وذلك نزولاً عند مطالب منظمة طلاب الاحرار التي طالبت رئيس الحزب بترشيح اشخاص من الشباب المثقف والمنضبط، يؤمنون به وبمبادئه، أمثال نسيب لحود في المتن الشمالي، وروجيه عاصي في بيروت، وجوزيف غاريوس في المتن الجنوبي. وأيدت أوساط حزبية داخل الوطنيين الاحرار بشدة ترشيح المهندس نسيب لحود معتبرة معركته معركة الشباب ذي التطلعات البعيدة. في المقابل، رفض هؤلاء ترشيح العقيد فؤاد لحود بسبب موقف هذا الأخير من الانتخابات الفرعية عام ١٩٧٠ والتي خاضها ضد النائب امين الجميل على الرغم من معارضة حزب الاحرار لقراه هذا. إلا ان العقيد فؤاد لحود ابلغ المكتب السياسي في حزب الوطنيين الاحرار الى عجزه عن تجيير اصواته لأبن عمه نسيب لحود. أمام هذه الإشكالية، برزت بعض المواقف داخل حزب الوطنيين الاحرار مؤيدة لترشيح دوري شمعون في دائرة المتن الشمالي، إلا ان هذا الأخير رفض الترشح في ظل وجود اربع مرشحين للحزب في تلك الدائرة. في النهاية، وبعد جلسة صاخبة عقدها المكتب السياسي لحزب الوطنيين الاحرار، قرر هذا الأخير تبني ترشيح العقيد فؤاد لحود.
لم تكن عقدة آل لحود الوحيدة التي اخرّت إعلان لائحة الحلف الثنائي في المتن، فقد ظهرت عقدة ثانية تمثّلت هذه المرة بالمرشح الساحلي، حيث كان هناك ثلاثة مرشحون من ساحل المتن: خليل أبو جودة، حفيظ أبو جودة، واوغست باخوس. وكان على حزبي الاحرار والكتائب اختيار واحدًا من بين هؤلاء المرشحين الثلاث. إلا ان حزب الاحرار، وبعد مشاورات قام بها رئيس الحزب مع وفود من ناخبي المتن، عاد وقرر تبني ترشيح اوغست باخوس على هذه اللائحة. وجرى بعد ذلك الاتفاق مع الكتائب والطاشناق على تبني ترشيح اوغست باخوس من منطقة ساحل المتن.
وهكذا تشكّلت في النهاية لائحة الكتائب والاحرار والطاشناق في المتن الشمالي والتي ضمن كل من امين الجميل، فؤاد لحود، اوغست باخوس، ميشال المر وآرا يريفنيان. والتي فاز جميع أعضائها، في انتخابات وُصفت بأنزه واصدق انتخابات، والأفضل تنظيمًا والأكثر تنافسية وحرية منذ الاستقلال، ولم تشهد أي عملية تزوير. وأتت النتائج من وحي النظام، وليس من خيار الحكم. وهذا ما دفع جريدة اللوموند الفرنسية الى القول: “الموقف المثالي الذي وقفته السلطات التي لزمت للمرة الأولى على ما يبدو، حياداً مطلقاً حيال جميع المرشحين”. وفي الواقع اعتبر ٥٨،٦٩٪ من الذين أعطوا رأيهم في دراسة إحصائية بأن الدولة التزمت الحياد والحرية، في حين ارتفع عدد المشككين الى نسبة ٤١،٣١٪.