لبنان يواجه مشكلة دواء بسبب الأزمة الاقتصادية
يصطدم اللبنانيون بأسوأ كوابيسهم يوما بعد يوم إذ تستفحل الأزمة الاقتصادية وتحمل إليهم كل المخاوف التي سمعوا تحذيراتها وانتابهم قلق الوصول إليها. وهذه النتيجة الطبيعة لبلد في سقوط حر دون جهة تلجمه، فلا السلطة السياسية ولا مؤسسات دولة ولا مصرف مركزي قادرين على كبح الانهيار.
وتعتبر أزمة الدواء التي يعاني منها لبنان حاليا واحدة من أبرز الأمثلة على هذا الواقع الذي يعانيه اللبنانيون، فالأدوية في حالة انقطاع دائم، ومخزونها يتلاشى تحت ضغط السوق وعمليات الاحتكار والتخزين، وفي المقابل، تأخير وعرقلة وتقنين في عملية الاستيراد نتيجة انتظار اعتمادات الدعم التي يصدرها مصرف لبنان، التي تتأخر لصعوبة تأمين الدولارات اللازمة.
الكارثة باتت حتمية، وهذا ما تؤكده كل الترجيحات، واللبنانيون على موعد مع ارتطام قاسٍ بقعر أزمة دواء غير مسبوقة، سيدفعون فيها ثمن سنوات من سوء الإدارة والمحسوبيات والفساد في ملف الأدوية ومصالح الشخصية لاستيرادها. ورفع دعم مصرف لبنان بات حتميا بحسب الأرقام، والوقت فقط يفصل اللبنانيين عن الواقع المر الذي سيشترون فيه أدويتهم بسعر الدولار.
مصير حتمي
هذا المصير المحتم على اللبنانيين، ناقشه تقرير صادر عن “مرصد الأزمة” في الجامعة الأميركية في بيروت، الذي يرصد تداعيات الأزمة الاقتصادية على البلاد وحياة سكانه. ويشير التقرير إلى حتمية رفع الدعم الرسمي عن الدواء لكونه يستنزف نحو ٣ في المئة من الناتج المحلي وهذا أعلى رقم عالميا.
ويرصد التقرير تأثير رفع الدعم من خلال مراجعة أرقام لحجم استهلاك الدواء وحجم أصحاب الأمراض المستعصية والمزمنة ومستخدمي الأدوية بشكل دائم، إضافة إلى قراءة الأثر الاجتماعي لهذه الخطوة إن حصلت.
ويشير المرصد إلى أن التخبط في إدارة هذا الملف خاصة بعد أن توقف مصرف لبنان عن إمداد التجار والمستوردين “بالدولارات الطازجة” المطلوبة لاستيراد الأدوية والمستلزمات الطبية على سعر الصرف الرسمي، في ظل غياب تام لسياسة عامة تقارب ملف الدواء في لبنان في ضوء الانهيار المالي والاقتصادي.
وكان مصرف لبنان قد بدأ العمل بإجراء دعم استيراد الدواء، في أكتوبر من العام 2019، مع بداية انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، حيث يقوم الدعم على منح الدولارات مقابل السعر الرسمي للصرف (1507 ليرة للدولار الواحد) لمستوردي القمح والأدوية والمحروقات بالإضافة إلى سلة غذائية عبر اعتمادات مصرفية تفتح من أجل ذلك.
وينتقد التقرير تحول هذا الإجراء من إجراء مؤقت في فترة انتقالية هدفه حماية القدرة الشرائية للمواطنين وأسعار سلعهم الأساسية، إلى سياسة عامة من الدعم العشوائي يمارسها المصرف المركزي بعد أن امتنعت الحكومة عن تقديم سياسات وبرامج لمعالجة الازمة الاقتصادية والمالية والمعيشية، الأمر الذي حول مصرف لبنان إلى صانع السياسات العامة دون خبرة أو معرفة بالقطاعات، بدلا من الحكومة مع ما يحمله ذلك من “هرطقة”، بحسب وصف المرصد.
خياران.. أحلاهما مرّ
واليوم، باتت كلفة هذا الدعم أكبر من أن يغطيها مصرف لبنان الذي بات مضطرا إلى استنزاف احتياطاته الإلزامية من العملة الصعبة (وهي من أموال المودعين اللبنانيين) للاستمرار بالدعم، بحسب ما يقول التقرير، خاصة وأن كلفة استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية وحليب الأطفال وصلت إلى 1.173 مليار دولار، خلال العام 2020، لتعود وترتفع الفاتورة الدوائية بشكل كبير، خلال العام الحالي، حيث قدرت الكلفة في الأشهر الخمسة الأولى من العام بحوالي 1.310 مليار دولار من خلال الطلبات التي تقدمت بها شركات استيراد الأدوية والمستلزمات الطبية.
هذا الواقع يصفه المرصد بالمعضلة الحقيقية “بين صعوبة إلغاء الدعم عن الدواء بشكل فجائي وغير منظم عبر توقف المصرف المركزي عن تحويل الدولارات، وهو بذلك يطبق منطق محاسباتي على الصحة العامة وما سيخلف عن ذلك من تردي صحة الناس، وبين إبقائه وتمويله عبر المصرف المركزي من موجودات هي في تناقص مستمر وصولا إلى استخدام الاحتياط الإلزامي”.
ويقول المشرف على المرصد، أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية ناصر ياسين: “لا يمكن اليوم لمصرف لبنان أن يضع سياسات الدواء أولا لفقدانه الاختصاص في البت بهذا الملف الصحي ومثله ملفات الطاقة والأمن الغذائي ولا يمكن أن يكون القرار بيده حتى قانونيا وتشريعيا، وهنا لا يمكن وضع كل اللوم على المصرف، القرار السياسي فدور المصرف تنفيذي فقط”.
وهناك مشكلة واقعة أيضا “تزيد من تأزيم الواقع الدوائي”، بحسب تصريح ياسين لموقع “الحرة”، فهناك ما قيمته نحو 600 مليون دولار من الأدوية استوردتها الشركات في لبنان من الشركات المنتجة على أساس أنه جرى صرف اعتمادات لها من مصرف لبنان، ليتبين أن ذلك لم يحصل، ومصرف لبنان لم يؤمن هذه الأموال فيما الأدوية باتت في السوق، وهذا أول استحقاق على مصرف لبنان أن يؤمنه، لحل جزء من المشكلة.
وتبقى المشكلة الأساسية هي مصير الدعم: هل سيرفع نهائيا أو بشكل جزئي؟، وهنا “الكارثة”، وفق ياسين، إذ “سيتحمل المواطن اللبناني الفرق الكبير بأسعار الدواء التي ستلحق شأنها شأن كل السلع بسعر استيرادها بالدولار، إضافة إلى أن لبنان سيشهد موجات انقطاع في الأدوية، فمن جهة ستتوقف الشركات المنتجة للدواء عن تسليم حاجة السوق اللبنانية بسبب عدم تقاضيها لفواتيرها، ومن جهة أخرى سيتحول الاستيراد إلى الكميات القليلة بسعر دولار السوق السوداء، وما كان سعره اليوم نحو 25 الف ليرة لبنانية سيصبح سعره نحو 150 ألف ليرة، وهذا ما يعني كارثة صحية في البلاد”.
ومن بين الآثار التي ستنتج عن هذه الأزمة، يتوقع المشرف على “مرصد الأزمة” توقف أدوية بسبب عدم اهتمام شركاتها المنتجة بالسوق اللبنانية، فيما ستبحث الشركات المستوردة عن بدائل أرخص، والمشكلة الرئيسية أنه لا توجد خطة لتنظيم هذه الأزمة المقبل “فالكل يدرك أننا ذاهبون إلى أزمة لكن لا يوجد تصور للتعامل مع هذه الأزمة او كيفية إدارتها، وإنما البديل حتى الآن هو الفوضة التامة في هذا القطاع.”
ومن بين الانعكاسات في ظل هذه الفوضى، بحسب ياسين، “ستنقلب حركة تهريب الدواء من لبنان إلى خارجه كما هو الحال اليوم، ليصبح التهريب من الخارج إلى لبنان، كما كان الحال قبل دعم الدواء، الحلول صعبة لهذه الأزمة ولكن لكون ها القطاع حيوي لا يمكن التعامل معه بالأرقام خاصة لناحية الأمراض المزمنة والمستعصية”.
ويختم ياسين مؤكدا أن الحل الأمثل اليوم هو وضع خطة لترشيد الدعم بدلا من كارثة رفعه نهائيا، وفي وقت هذا الترشيد يتم وضع سياسة دوائية جديدة.
ضريبة غالية لسياسات بالية
ويحمل مرصد الأزمة مسؤولية هذا التخبط الحاصل “للسياسات السابقة التي جعلت من كلفة الفاتورة الدوائية في لبنان من الاعلى في العالم حيث قُدر الانفاق على الدواء عام 2018 قبل الازمة الاقتصادية بـ 3.4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه من أعلى النسب في العالم، فمثلا اليونان انفقت على الدواء 2.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، عام 2018، وهي من أعلى مستويات الانفاق في دول “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.”
كذلك، وبحسب التقرير، يشكل الإنفاق على الأدوية الحصة الأكبر من مجمل الإنفاق على الصحة والتي تقدر بـ 44 في المئة من المجموع، وهذه النسبة هي من الأعلى في العالم. ويعود ذلك إلى اعتماد لبنان على استيراد الدواء من الخارج بنسبة 81 في المئة من احتياجاته الدوائية جلها من الأسماء التجارية متجاهلا تطوير الإنتاج المحلي للدواء حيث تعمل مصانع الدواء بمعدل نصف طاقتها فقط مغطية 19 في المئة من احتياجات السوق، 12في المئة من حاجات السوق هي فعليا أدوية تتم تعبئتها لحساب الشركات العالمية و7 في المئة فقط هي بدائل.
كيف الخروج بأقل الأضرار؟
ويقدم التقرير في ختامه ثلاث نقاط كنصائح للتعامل مع الأزمة بأقل الأضرار الممكنة، ودعا بالدرجة الأولى إلى “تفادي رفع الدعم غير المنظم، فيما يقع على عاتق الحكومة وضع خطة مرحلية لترشيد الدعم حتى نهاية 2022 حيث يشمل الدعم فقط أدوية الامراض المستعصية التي تحدد مسبقا من قبل لجنة علمية موثوقة”.
وبالدرجة الثانية، يشير التقرير إلى ضرورة الشروع في وضع سياسة دوائية حديثة تُبنى على محورين، “الأول هو التطوير والاستثمار في الصناعات الدوائية المحلية ووضع التشريعات والإجراءات اللازمة لمراقبة جودة الادوية المنتجة محليا، والثاني، الاستيراد المباشر من قبل القطاع العام عبر منظمة الصحة العالمية واليونيسف، وغيرها من المنصات كما هو حاصل حاليا في برنامج الأدوية المزمنة الذي تشرف عليه وزارة الصحة العامة وتنفذه بالتعاون مع جمعية الشبان المسيحيين، من خلال شبكة مراكز الرعاية الصحة الأولية العاملة على الأراضي اللبنانية كافة ويستفيد منه حوالي 100 ألف مريض بشكل دوري”.
ويختم التقرير مقترحا “وضع نظام الكتروني لوصفة الدواء (e-prescription system) يربط الطبيب والصيدلي ويراقب استخدام الأدوية من قبل المريض وحاجته لذلك. وهذا النظام ليس مستحيلا مع نجاح تجربة منصة التفتيش المركزي واستخدامها في تنظيم التلقيح ضد كورونا”.