خالد البوّاب – أساس ميديا
لنعُد إلى بداية القصّة. هناك سؤال لم نجد من يجيب عنه، ولا يزال مطروحاً إلى اليوم: ماذا تبدّل في حسابات سعد الحريري ودفعه، في المقابلة التلفزيونية مع الزميل مارسيل غانم في 8 تشرين الأوّل 2020، إلى إعلان نفسه “مرشّحاً طبيعيّاً لرئاسة الحكومة”؟ ثمّ أرسل رسالة إلى الثنائي الشيعيّ بأنّه مستعدّ ليقبل التكليف.
قبل هذه الخطوة، ومنذ استقالته غداة ثورة 17 تشرين، كان الحريري يعلن أنّه غير مرشّح، والمرحلة لا تقتضي رجلاً سياسياً، بل شخصية اختصاصية.
للرئيس المكلّف “أحجيته” في هذه الرواية، التي تتداخل فيها عوامل سياسية وشخصية.
الحماسة والاندفاعة دفعتا الرجل إلى اتّخاذ موقف بدون احتساب الخيارات والاحتمالات الممكنة. وهذا يعني أنّ السبب “خاصّ” إلى حدود بعيدة، وربّما يلامس الضرب تحت الحزام، فاختار الردّ سريعاً عليها.
قبيل خطوته بأيّام، زار بيتَ الوسط شخصٌ مقرّبٌ جدّاً إلى الحريري وتوجّه إليه بالقول: “قد يكون بيننا اختلاف في الرأي والتوجّهات، لكنّني لا أنكر أنّ لهذا البيت فضلاً عليّ، وأنّي لي فيه حصّة، ومن يسكنه يعنيني. جئت لأبلّغك بأنّ تواصلاً حصل معي من قصر بعبدا والتيار الوطني الحرّ بشخص رئيسه جبران باسيل للاتفاق معي على تكليفي برئاسة الحكومة، وها إنّني أبلّغك أنني رفضت الحديث حول الموضوع”.
كان لهذا الخبر وقعٌ كبير على مسامع ساكن بيت الوسط، وربما يكون الدافع الأساسي الذي حدا به إلى أن ينتزع ورقة التكليف. لا سيّما أنّه كان “المرشّح المفضّل” للثنائي الشيعي، قبل أن يكون “المرشّح الطبيعي” بسبب كتلته السنّية.
قرّر الحريري أن يتصدّى لمحاولة اللعب داخل بيته الداخلي. على هذا الأساس بدأ الاستعداد لمقابلته التلفزيونية، التي أعلن خلالها أنّه مرشّح لرئاسة الحكومة وتشكيلها، دون التشاور مع أحد بما في ذلك رؤساء الحكومات السابقين.
ربّما يعيش الحريري أسير رئاسة الحكومة في حساباته. لكن لو لم تحصل تلك الحادثة لكان استمرّ في تريّثه، وتجنّب “الفخّ” الذي حذّره منه النائب نهاد المشنوق سابقاً وباكراً جدّاً، خلال الاستشارات النيابية. وها هو قد وصل إلى هذا الفخّ، فأصبح في منزلة بين اثنتين: إذا شكّل حكومة سيكون الخاسر الأكبر سياسياً بسبب عدم قدرته على استجلاب مساعدات وحلّ الأزمات غير المسبوقة. وإذا لم يشكّل واعتذر سيكون أيضاً خاسراً أمام رئيس الجمهورية وجبران باسيل وستكون سابقة بأن “يسحب” رئيس الجمهورية التكليف بطريقة غير مباشرة. وإذا استمرّ على تكليفه رافضاً التقدّم أو الرجوع سيكون في عداد الخاسرين شعبياً على مستوى لبنان.
بعد مضيّ هذا الوقت الطويل، أصبحت الصورة الداخلية والخارجية واضحة جدّاً. الحريري أمام ثلاث وقائع سياسية معروفة ومستنتجة:
الأولى: أنّه غير مرغوب به من قبل المملكة العربية السعودية التي تعتبر أنّ الظرف يقتضي شخصية من خارج الإطار السياسي، بينما الحريري يخطئ بحقّ نفسه وإرثه وما لديه.
الثانية: أنّه مدعوم من قبل جمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة لجهة التمسّك بالتكليف، وعدم التنازل وعدم الاعتذار، ويستمرّ الدعم على الرغم من تعثّر التأليف.
الثالثة: أنّه يتعرّض لضغوط فرنسية، ومن حزب الله ونبيه برّي، لتشكيل الحكومة. وفي حال لم يستطع تشكيلها فإنّ فرنسا تريد منه الاعتذار.
إلى جانب هذه المواقف لا بدّ من الإشارة إلى موقفين أساسيّين:
الموقف الأوّل من الولايات المتحدة الأميركية التي لا تزال غائبة عن المشهد بشكل مباشر. وهناك إشارات متفاوتة، بعضها يشير إلى دعمها المبادرة الفرنسية، والبعض الآخر يؤكّد أنّ واشنطن غير مهتمّة حتى الآن، ولم تبحث في الملفّ اللبناني وتفاصيله.
أمّا الثاني فهو من روسيا التي تسعى إلى تشكيل الحكومة بالتوافق بين الحريري وباسيل. وبناء على هذين الموقفين، لا بد من تسجيل الخلاصة التالية: واشنطن هي صاحبة التأثير والقرار، ومن دونها لا يمكن للمبادرة الفرنسية ولا لغيرها أن ترى النور. أمّا روسيا فتأثيرها محدود وشبه منعدم ولا يتخطّى الإطار المعنوي.
بناء على الوقائع الثلاث المذكورة، وبعدما وصل الحريري إلى لحظة الحسم، وتضييق الخناق مِن حوله لمنعه من الاستمرار في المناورة، عليه الاختيار بين احتمال من ثلاثة:
1 – إمّا أن يلبّي رغبة السعودية ويتّجه إلى الاعتذار، ثمّ إلى المعارضة استعداداً للانتخابات. وهذه الخطوة قد تعيد تحصينه شعبياً وسياسياً إذا أحسن التصرّف من خلال العودة إلى الثوابت، والحفاظ على التوازنات، وتجديد العلاقات مع الحلفاء والمقرّبين الذين أصبحوا مبعدين. وهذا موقف سيزعج القوى السياسية في الداخل وبعض القوى الإقليمية التي لا تريد منه الاعتذار.
2 – وإمّا أن يستمرّ على موقفه انسجاماً مع الموقفين المصري والإماراتي، وموقف رؤساء الحكومة السابقين “المعلن”، وبذلك سيستمرّ الموقف السعودي منه على حاله، فيما سيصبح محرجاً إلى حدّ بعيد في الداخل، وسيخسر دعم نبيه برّي وحزب الله ووليد جنبلاط والآخرين.
3 – وإمّا أن يخضع لضغوط حزب الله والرئيس برّي والفرنسيين أيضاً، ويذهب إلى تشكيل حكومة، بعد حصول تطوّرين اثنين: الأوّل موقف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله الذي وضع للحريري خارطة طريق، والثاني تحرّك برّي الذي حذّره من أنّه إذا لم يتقدّم بأيّ خطوة جديدة ولم يقدّم مبادرة بنّاءة فإنّه لن يستمرّ بدعمه.
لكن لهذا القرار تبعات سياسية سيّئة وخطرة عليه، على الصعيدين الإقليمي والدولي، وعلى الصعيد المحلي من خلال اهتزاز صورته وتحوّله إلى أسير لحزب الله، بشكل كامل، يلتزم بتوجيهات نصر الله، ويخسر ما تبقّى له من شعبيّته.
الحريري في مأزق لا يُحسد عليه. إذا شكّل الحكومة على مسافة أشهر قليلة من الانتخابات، سيكون قد طعن نفسه بنفسه. فالحكومة لن تكون قادرة على إنجاز أيّ إصلاحات مالية أو اقتصادية، وستكون مضطرّة إلى اتّخاذ قرارات غير شعبوية تنعكس عليه سلباً انتخابياً. ولن يكون قادراً على إدارة الانتخابات مع عدم القدرة على تعديل القانون. وعليه فستتراكم الأزمات وتنفجر بوجهه، مع غياب أيّ دعم دولي للحكومة، التي سيكون التعاطي معها مماثلاً للتعاطي مع حكومة حسان دياب، ولن تكون أيّ دولة جاهزة لتقديم مساعدات جدّية في ظلّ غياب الإصلاحات والقرارات الجدّية. حينئذٍ ستنتهي “الأسطورة” القائلة بأنّ الحريري هو صاحب الحلول السحرية، والوحيد الذي يأتي بالدعم الدولي.
أمّا إذا لم يشكّل الحكومة واستمرّ على موقفه متمسّكاً بالتكليف، فإنّ البلد سيكون مهدّداً بأزمة سياسية تنذر بمواجهة كبرى قد تؤدّي إلى توتّر على الأرض، بفعل تراكم الأزمات وزيادة منسوب الضغط عليه من خلال اتّهامه بأنّه يعرقل الحلّ والتسوية، ولا يشكّل الحكومة، ولا يفسح في المجال أمام غيره. سيكون في فوهة المدفع، خصوصاً أنّ البلد لا يحتمل الاستمرار على هذا النحو إلى نهاية العهد. وسيتعرّض لحملة سياسية كبرى تحمِّله مسؤولية التعطيل والانهيار.
يبقى الحريري أمام خيار لا يبدو أنّه يجرؤ عليه، حتى إنّه يتجنّب إطالة التفكير فيه، وهو الاعتذار. إذ يعتبر أنّه بناءً على هذا القرار سيخسر كل شيء، وسيظهر وكأنّه أخطأ في كلّ حساباته، وسيعطي مكسباً معنوياً لرئيس الجمهورية بتكريس سابقة تسمح له بوضع فيتو على شخصية مكلّفة برئاسة الحكومة. ولمّا كانت كل معايير ومقوّمات المبادرة الفرنسية قد سقطت، لجهة تشكيل حكومة مهمّة سيكون من المستحيل عليها أن تذهب إلى اتخاذ قرارات مالية واقتصادية مطلوبة منها، أصبح واضحاً أنّ المجتمع الدولي يهتمّ ويركِّز على أن تنفّذ استحقاق الانتخابات النيابية، التي لا بدّ من مواكبتها بتشكيل حكومة بمواصفات جديدة من غير المرشحين، أي حكومة مهمّة انتخابية تدير الانتخابات وتشرف عليها، ثمّ تتشكّل حكومة بناء على النتائج الانتخابية.