ملاك عقيل -أساس ميديا
مضى يوم أمس من دون أن يَطلب الرئيس المكلّف موعداً من دوائر القصر الجمهوري للقاء الرئيس ميشال عون، إثر انتهاء الغداء مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي.
قبل وصول موكب الحريري إلى عين التينة، حَرَصت أوساط الرئيس المكلّف على التعميم أنّه لن يبحث تشكيلة حكومية مع برّي، بل سيستمع إلى ما لدى الأخير من “أفكار”. لكنّ الجلسة، وفق المعلومات، غاصت في تفاصيل حكومة الـ24 وزيراً من ضمن حثّ رئيس مجلس النواب للحريري على التوجّه إلى القصر مع تشكيلة جديدة تراعي توزيعة جديدة للحقائب وحصص الكتل، وتداوُل كلّ الأسماء مع رئيس الجمهورية.
سبقت هذا اللقاء وتلته اتصالات، لم تهدأ على خط بعبدا وجبران باسيل وحزب الله وعين التينة، لكن لم توصل إلى حسم الآلية التي سيتمّ من خلالها اختيار الوزراء المسيحيين داخل الحكومة، بوجود أكثر من سيناريو، في وقت اعترضت بعبدا طوال الفترة الماضية على تفرّد الحريري بتوزيع الحقائب وتسمية الوزراء المسيحيين، حتّى المحسوبين ضمن حصة رئيس الجمهورية، من دون أخذ مشورة “شريكه” الدستوري ولا موافقته.
ما قيل عن ساعات وأيام حاسمة، تفصل بين صدور مراسيم حكومة الحريري وبين توقيت سقوط الهيكل فوق رؤوس الجميع، شكّل امتداداً لأزمة كرّست أمراً واقعاً بات من الصعب تجاهله: لن تولد حكومة رئيسها سعد الحريري في حين لا يزال ميشال عون رئيساً في بعبدا… وإن وُلِدت ستوسّع حفرة جهنّم الجماعية للبنانيين.
عاجَلَ النائب السابق وليد جنبلاط الحريري، بُعَيد ساعات من وصوله إلى بيروت، بتغريدة صباحية دعا فيها إلى “التفتيش عن القوى الخفيّة التي تحول دون تشكيل حكومة”. لم يكن الرئيس المكلّف وحده المقصود بقدر ما “طرطشت” التغريدة قصر بعبدا.
فقد حمَّل جنبلاط الطرفين مسؤولية المأزق، نائياً بنفسه عن الدخول في سجالات المحاور، ومصطفّاً بالكامل إلى جانب برّي إلى حدّ الأخذ بنصيحته في جلسة مناقشة رسالة رئيس الجمهورية بإطلاق موقف، عبر النائب هادي أبو الحسن، بضرورة حصول تسوية بين عون والحريري على قاعدة 24 وزيراً طالما رئيس الجمهورية في موقعه والرئيس المكلّف مستمرّ بمهمّته.
وهو الموقف الذي وسّع أساساً رقعة الخلاف مع الحريري بعدما قَصَد جنبلاط القصر الجمهوري في آذار الفائت بناءً على طلب رئيس الجمهورية، عشيّة اللقاء الـ18 (الأخير) بين عون والحريري، منادياً بـ”التسوية وتجاوز الحساسيات”، ونافياً مطالبته بحصّة درزيّة. وما لم يقُله من داخل قصر بعبدا، يومئذٍ، هو طرحه على رئيس الجمهورية حكومة من 24 وزيراً كلّفته اتّهاماً مباشراً من محيط بيت الوسط “بالتآمر مع فريق 8 آذار ضدّه”.
منذ فترة “يزرك” جنبلاط المعنيّين بالتأليف في زاوية مسؤوليتهم المباشرة عن التعطيل، والالتهاء بخلافاتهم الشخصية، و”الخناقة” على وزيريْ العدل والداخلية، وتجاهل ما هو أخطر بكثير من معضلة الكهرباء، إلى كارثة رفع الدعم والضرورة الملحّة لفتح باب التفاوض مجدّداً مع صندوق النقد الدولي.
في حكومة الـ18 ضَمِن جنبلاط الوزير الدرزي، وفي حكومة الـ24 قبِل بالشراكة مع طلال إرسلان. ويسلّم، كما صديقه برّي، بأنّ العقد داخلية، والرهان على الحوار الأميركي – الإيراني مضيعة للوقت. تماماً كما انتظار الحريري لرضى السعودية عليه. وكان جنبلاط براغماتيّاً إلى أبعد الحدود بالقول، في حديث تلفزيوني أخيراً: “لنغسل هذا الغسيل الوسخ بين بعضنا، فالتسوية مش غلط”.
“القوى الخفيّة” المعطِّلة لولادة الحكومة، التي تحدّث عنها جنبلاط، معروفة بالنسبة إليه وإلى برّي وحزب الله، وعنوانها واضح: “سعد وجبران”. لكنّ الجميع، من دون استثناء، يبلّ يده بالغسيل الوسخ، حتّى لو نجحت هذه القوى الثلاث في تصوير نفسها منزّهة عن الأزمة الحكومية.
عمليّاً، حِلف برّي والحريري، وغطاء حزب الله الحديدي للرئيس المكلّف، واستفزاز برّي وجنبلاط المستمرّ لعون وباسيل بتنصيب نفسيهما “قادة في الإصلاح ومكافحة الفساد”، كلّها عوامل زادت في التأزيم الحكومي، ولن تنتهي حتى مع ولادة الحكومة.
والأهمّ أنّ الحكومة، بدفع مباشر من رئيس الجمهورية، باتت مرتبطة بما هو أبعد من توزيعة الحقائب والأسماء، حيث يفرض عون وباسيل تعهّد الحريري والتزامه مسبقاً بالسير بأكثر من ملفّ إصلاحي، ويناقشان برّي في ضرورة سنّ مجلس النواب حاليّاً قوانين إصلاحية، بمعزل عن مصير الحكومة، وهو الأمر الذي أشار إليه باسيل في كلمته في مجلس النواب، مع دعوته إلى طاولة حوار في بعبدا “تبحث أوّلاً تأليف الحكومة، وثانياً الإصلاحات، وثالثاً نظامنا ووضعيّتنا”.
وفي الساعات الأخيرة لم يطرأ ما يمكن أن يحرّك “جبل الباطون” المانع لتشكيل الحكومة. وأيّ لقاء محتمل بين الحريري وباسيل لم يدرج ضمن أجندة عين التينة.
يقول قريبون من برّي: “للدقّة لم يسعَ رئيس مجلس النواب طوال الأشهر الماضية لعقد هذا اللقاء. لكن فقط حين طُرحت فكرة أن يلتقيا في باريس برعاية الفرنسيين، عرض أحدهم على برّي استضافتهما في عين التينة الأقرب من الإليزيه. لكن لم يحصل أيّ مسعى جدّي في هذا السياق. واليوم التركيز هو على تضييق المسافات بين عون والحريري، وحلّ معضلة الوزراء المسيحيين”.
في المشهد العام حكومة الـ24 وزيراً ثابتة، وكذلك تقسيمة الثلاث ثمانيات. وفي العمق، الخلاف هو على اسميْ وزيريْ العدل والداخلية ومَنْ يسمّيهما. وهي عقدة متداخلة بالكامل مع العقدة الكلاسيكية المرتبطة بتسمية الوزيرين المسيحيَّيْن في سلّة الـ12 وزيراً مسيحيّاً. لكن عمليّاً، كل اسم مسيحي خارج حصة السبعة وزراء مسيحيين لرئيس الجمهورية هو عنوان مشكل بين عون والحريري وبقية القوى المعنيّة بتسمية وزراء مسيحيين، مثل سليمان فرنجية.
حقيبتا الداخلية والعدلية هما الأهمّ ربطاً بالاستحقاق الانتخابي المقبل، ولن يسمح عون والحريري بخروجهما من دائرة تأثيرهما. مع العلم أنّ في تشكيلة الـ18، التي قدّمها الحريري لعون في 22 آذار الفائت، سمّى لبنى مسقاوي لحقيبة العدل، وزياد أبو حيدر لوزارة الداخلية، وجو صدي في الطاقة، وفادي سماحة في الاتصالات، وأنطوان قليموس للدفاع… وهي حقائب أساسية لم يتمّ التوافق بعد على توزيعها ولا على أسماء شاغليها في حكومة الـ 24. وقد رفض عون سابقاً اسم النائب العام الاستئنافي في بيروت زياد أبو حيدر، واختار اسماً أرثوذوكسيّاً آخر لحقيبة الداخلية.
وفي الواقع، وسّعت حكومة الـ24 بيكار الخلاف بين الطرفين مقارنة بحكومة الـ18. حتى إشعار آخر، يصرّ عون على الداخلية مع منح موافقته على اسم وزير العدل، فيما يجزم قريبون من بعبدا أنّ عون يتمسّك أيضاً بوزارة العدل.
مع تأكيد رئيس الجمهورية أنّه لا يسعى إلى الثلث المعطِّل، تصبح حصّته مع التيار 8 وزراء، من ضمنها الطاشناق وطلال إرسلان، أي 7 مسيحيين ووزير درزي. ويتمسّك الحريري بوزيرين مسيحيّين ضمن حصة الـ8 العائدة له، بما فيها الوزير الدرزي المحسوب على جنبلاط. أمّا الوزراء المسيحيون الثلاثة، فوزيران لسليمان فرنجية وآخر للحزب القومي.
وقد كان باسيل صريحاً في كلامه، أخيراً في مجلس النواب، بأنّ “الكتل تسمّي، ولا تصبح الأسماء نهائية إلا بعد موافقة الرئيسين أو رفضهما، بحسب المعايير الموضوعة، وذلك بعكس ما كان يحصل سابقاً، حيث كانت الكتل تفرض خياراتها”. وغمز من قناة برّي بقوله: “برّي كان يعطي الأسماء في القصر الجمهوري بعد اطّلاعه على التشكيلة وموافقته، أمّا الآن فعليه أن يقدّم الأسماء مسبقاً، وتتمّ الموافقة عليها كباقي الكتل”.
هذا يعني باختصار أنّ الحريري في حكومة الـ24 مكبّلٌ أكثر بمطالب القوى السياسية، خصوصاً تلك التي ستقترح أسماء “سياسية” ضمن حكومة الاختصاصيين.