في الورقة التي أعدّها “مرصد الأزمة” في “الجامعة الأميركية في بيروت” بعنوان “لبنان في عام 2021 وما بعده”، ونشَر موقع “أساس” خلاصاتها، نجد محاولةً، لعلّها الأكثر جديّة، للبحث في ما يتجاوز العوارض الآنية للأزمة الراهنة في لبنان، ولسبر المعضلات التي ستترك آثارها طويلاً في مستقبل البلاد. وذلك ملفّ يستحق نقاشاً يذهب إلى ما هو أبعد، لاستشراف ما يتهدّم في النموذج السياسي – الاقتصادي – الاجتماعي القائم، وما يتشكّل على أنقاضه.
تحصي دراسة المرصد خمس معضلات “شائكة” ترى فيها ما ينذر بتعميق الانهيارات، أولاها الفقر والبطالة، وثانيتها الضربة العميقة للقطاع الصحي، وثالثتها تدهور مستوى التعليم، ورابعتها زيادة العنف والجريمة، وآخِرتها تنامي النزعة الانفصالية، متمثلة بدعوات الفيدرالية واللامركزية الموسّعة، وتعميق سياسات الهويّة.
ذاك جهد بحثيّ في مساحة لا تحظى بكثير من الالتفات، على الرغم من مرور عام ونصف عام على اندلاع شرارة الأزمة. وهذا مفهوم لأنّ الأزمة تستنزف قدرة اللبناني على التفكير في ما هو أبعد من يوميات طوابيرها المتنقّلة، من البنوك في أسابيعها الأولى، إلى السوبرماركت والأفران ومحطات البنزين. لا ترَف للتفكير في ما يتجاوز الفقر والبطالة والرواتب المتآكلة. لكنّه دور مؤسسات الأبحاث أن تلتفت إلى ما يحفر بعيداً في مستقبل البلاد، ويحرفه إلى طريق تصعب العودة منه.
على أنّ ما يستوقف في المعضلات الخمس التي يشرحها المرصد بالبيانات والأرقام، أنّها تضرب في أسس المزايا التنافسية للنموذج اللبناني في المحيط العربي، وركائز النموذج الاقتصادي – الاجتماعي الذي أتاح، على ما فيه من علّات، الخروج من أزمات الثمانينيّات، بكلّ ما حملته من اجتياح إسرائيلي وحروب محليّة وانهيارات ماليّة وتصدّع للمؤسّسات.
ذلك النموذج يقوم على ركيزتين مترابطتين هما: رأس المال البشري والاغتراب. هاتان الركيزتان هما كلّ ما بقي قائماً في الثمانينيات حين انهارت السياحة، وتعطّلت الخدمات، وفقدت بيروت دورها التقليدي كجامعة للعرب ومستشفى لهم، وواحة للترفيه والإعلام. وحين نضجت الظروف الإقليمية أمام مشروع رفيق الحريري في النصف الأول من التسعينيّات، كانتا كافيتين لجعل أحلامه ممكنة وسط كل الركام. جاء رأس المال المغترب حين وجد فسحة للأمل، وكان رأس المال البشري حاضراً على مستويين: يستعيد المبادرة في صناعة النهضة العمرانية والمصرفية والخدماتية محليّاً، ويرفد النظام المالي بالتحويلات والاستثمارات والتمويل (الإيداعات) من الخارج.
استثمر اللبناني في هاتين الركيزتين خلال الحرب بوعيه الباطن. الكلام عن رأس المال البشري هو، بشكل أو بآخر، كلام عن التعليم. يجد اللبناني في التعليم وسيلة وحيدة ممكنة لجَسْر الفجوات الاجتماعية، والترقّي في سلّم التقسيم الأفقي للمجتمع. ولذلك ظلّ، حتى في أقسى مراحل الحرب، يستثمر في التعليم بكلّ ما أُوتي، وظلّت جامعات البلاد في ذلك الحين ذات سمعة لا تضاهى في الإقليم.
تشير دراسة “مرصد الأزمة” في الجامعة الأميركية إلى أنّ الأسر اللبنانية تنفق في المتوسط 9.1% من دخلها على تعليم أولادها، فيما تتجاوز تكلفة التعليم 13.1% من مجمل الناتج المحلي الإجمالي، وهي من أعلى النسب في العالم. المعادلة بسيطة: يعلّم اللبناني ابنه أو ابنته ليذهب أو تذهب بعد التخرّج إلى الخليج أو أيّ من بلاد الله، ويأتي بالعملة الصعبة إلى لبنان، بصورة وديعة مصرفية أو مسكن أو مساندة للأسرة أو إنفاق “سياحيّ”.
ذاك هو النفط اللبناني، حرفيّاً. حين تشير البيانات إلى أنّ تحويلات المغتربين تصل في المعتاد إلى ثمانية مليارات دولار سنوياً، فهذا يعادل أكثر من ربع الإيرادات النفطية المتوقّعة في موازنة الكويت لهذا العام! ولا شكّ أنّ أثر الاغتراب أكبر ممّا يبدو من رقم التحويلات. يكفي ذكر حجم الأموال التي تدفّقت إلى النظام المالي بعد الأزمة المالية العالمية في 2008.
أساسيٌّ في النقاش هنا أن يُذكر السبب الرئيس الذي أبقى رأس المال البشري قويّاً بعد عقد الثمانينيّات المجنون: إنّها منح مؤسسة الحريري الـ 33 ألفاً بلا شكّ. تلك المنح رفدت رأس المال البشري المغترب من جهة، وأنقذت الجامعات الخاصة في لبنان من جهة أخرى، لتظلّ مؤسسات التعليم المرموقة صامدة حتى نهاية الحرب.
أمّا الاغتراب فهو تقليد لبناني يعود إلى منتصف القرن التاسع عشر، لكنّه يجدّد محفّزاته في كل أزمة أو احتراب محلّي. وقد حافظ اللبناني على هذا التقليد خلال أزمة الثمانينيّات، وظلّ يجد طريقه إلى مهاجر جديدة في بلاد الله الواسعة، فإن لم تستقبله أميركا اللاتينية يتّجه إلى كندا، وإن لم يجد طريقاً إلى أوروبا يبحث عن مستقر في غرب أفريقيا. وتظلّ دول الخليج الموئل الأقرب ومربط الخيل.
ولافتٌ هو الترابط بين ركيزتيْ رأس المال البشري والاغتراب، فمن جملة البنية الوظيفية للتعليم في النموذج اللبناني أنّه يهيّئ الموارد البشرية اللبنانية لفرص العمل التي تخلقها الاقتصادات الخليجية خصوصاً، أو يوفّر الجسر الذي ينتقل بعده الطالب إلى الجامعات الأجنبية ليشقّ طريقاً في المهاجر الغربية. التعليم ببعده الوظيفي إذاً هو مصنع الاغتراب الحديث ومختبره.
أقسى ما في الأزمة الراهنة أنّها تضرب في عمق الركيزتين معاً. التدهور المعيشي يدفع إلى موجة نزوح نحو التعليم الرسمي الذي يعاني كل أمراض القطاع العام. وكذلك حال الجامعة اللبنانية التي أصبحت نهباً لأحزاب عفنة تتقاسم عمداءها وقوائم التفرّغ فيها، ولم تعد تحظى بأيّة سمعة تذكر في مجالات البحث العلمي أو جودة التعليم. ما يشير إليه تقرير مرصد الأزمة جوهريّ هنا: التعليم المدرسي والجامعي في لبنان خاضع لمنطق السوق، والحقّ في التعليم والمعرفة سلعة ترتفع كلفتها مع ارتفاع نوعيّتها. وفي أزمة كهذه يطحن السوق من انزاحوا من الطبقة المتوسطة إلى الفقر أو ما دونه. حتى الآن، لا شيء يشير إلى تراجع أعداد الطلاب في الجامعات الخاصة المرموقة محلياً، لكن القلق يأتي من جانبين: أوّلهما تدهور جودة التعليم لصعوبة استقطاب الأساتذة الجامعيين الأجانب، وثانيهما تضاؤل قدرة اللبناني على السفر للتعلّم في الخارج في ظل صعوبة تحويل الأموال.
يأتي ذلك فيما يواجه رأس المال البشري اللبناني في الخليج تغيّرات هيكلية عميقة في أسواق العمل، مع التوجّه المتزايد إلى توطين فرص العمل، ولا سيّما في السعودية والكويت وسلطنة عمان. ويضاف إلى ذلك اختلاف ظروف المنافسة مع الجنسيات الأخرى عن العقود السابقة. فالميزة التنافسية التلقائية لخريجي الجامعات اللبنانية تتضاءل لعدّة أسباب، منها بروز جامعات خليجية ذات سمعة أكاديمية أعلى من اللبنانية، ولا سيّما في السعودية، وموجات الابتعاث الهائلة إلى الجامعات الأميركية والأوروبية، وتحسّن مستوى التعليم (الأجنبي) في الدول العربية المنافسة في سوق العمل، ولا سيّما مصر، وبروز جيل لبناني ثانٍ ولد في الخليج وتلقّى تعليمه هناك، ولا يُعرَف شكل ارتباطه المستقبلي ببلده الأم، خصوصاً في مجتمع كوزموبوليتاني مثل دبي، يوفّر موئلاً مستقراً يسمح بالتملّك والإقامة ونمط الحياة السهل.
وثمّة وجه آخر للضربة التي تلقّتها ركيزة الاغتراب. فالأزمة المصرفية تضرب في المقام الأول رأس المال المغترِب المودَع في البنوك. ذاك هو رأس المال الذي موّل عجز الميزانية وعجز الحساب الجاري لسنين طويلة، ولا يُعرف كم من الوقت سيحتاج ليجرؤ مرّة أخرى على الثقة بالنظام. وبهدمه لا تتبخّر الثروة تماماً، بل ينتقل قدر منها إلى المقيمين، أفراداً أو شركات، الذين دخلوا الأزمة بقروض كبيرة، وخرجوا منها خفافاً بعدما سدّدوا ما عليهم بثمن بخس، إمّا عبر لعبة تجارة الشيكات، وإمّا بفعل السداد بالليرة المنهارة.
تشير البيانات المصرفية إلى أنّ نحو 25 مليار دولار من القروض سُدِّدت بالفعل منذ بداية الأزمة. بعضها سُدِّد بنصف قيمته الدولارية الحقيقية، وبعضها بعشرة في المئة ممّا كان عليه قبل الأزمة. ولذلك ما خسره المودعون يقابله شيء من إعادة توزيع الثروة على فئات أخرى.
تلك الركيزتان تستحقّان التفكير وسط هذه الأزمة القاسية، وليس بعدها. الفقر والجوع والبطالة والتضخّم، مهما بلغ جورها، تبقى ظروفاً عارضة قد تخرج البلاد منها في بضع سنين أو في عقد من الزمان، أو تبقى ممتدّة ما دامت أزمة النظام قائمة. لكنّ السنوات العجاف تهدم ما يحتاج ردحاً من الدهر لإعادة بنائه، التي تعتمد على قدرة الأجيال المقبلة على التفوّق في محيط عربي وغير عربي يزداد تنافسية وصعوبة.